(كنت شديد البأس علينا يا أبا حفص فدعوت الله أن يعز بك الدين أو بأبي جهل، ففعل الله ذلك بك، وكنت أحبهما إلى الله، فأنت معي في الجنة ثالث من هذه الأمة.)
وآخى بينه وبين أبى بكر في المسجد الذي أصبح بيت المحبة والتعارف، وصار المسلمون أرواحنا مجندة: إلى الله أسلمت الوجوه، وإلى الكعبة توجهت القلوب، وخلف رسول الله انتظمت الصفوف.
وأقبل سعد بن الربيع على عبد الرحمن بن عوف وقال له: يا أخي إني من أكثر الأنصار مالا، فأنا مقاسمك، وعندي امرأتان فأنا مطلق أحدهما، فإذا انقضت عدتها فتزوجها فقال عبد الرحمن وقد هاجر ولا مال ولا أهل: يا أخي بارك الله لك في أهلك ومالك.
كل ذلك من إشعاع الإيمان الذي انبثقت عنه الهجرة، ومن وحي المسجد الذي قال فيه النبي الكريم (من ألف المسجد ألفه الله)، وقال (إن للمساجد أوتادا: جلساؤهم، إن غابوا افتقدوا، وإن مرضوا عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم، جليس المسجد على ثلاث خصال، أخ مستفاد، أو كلمة حكمة، أو رحمة منتظرة).
وتفيأ النبي ظلال السلام وأرفه منذ نزل بين الأنصار، لذلك قال في مقام الذكر والشكر (لولا الهجرة لكنت من الأنصار) الذين نصروه وأكرموا من معه (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. .).
ويتأكد هنا لكل منصف أن الهجرة الكبرى لم تكن إلا إسراء بالأرواح قبل أن تكون انتقالا بالأشباح، وبذلك تميزت (الهجرة الكبرى) إذ ارتفعت فيها الإنسانية من الهاوية إلى العلية، وخلفت فيما وراءها غريزة الوحش، وشريعة الغاب، ومضت في تصعيدها إلى القمة، وصدق الشاعر.
إذا ما علا المرء رام العلا ... ويقنع بالدون من كان دونا
وسئل النبي: ما أفضل الإيمان؟ فقال:(الهجرة). فسئل وما الهجرة؟ قال:(أن يهاجروا من الضلال والعدوان في بلد أراد الله فيه للناس الأمن والسلام، وفيه البيت الحرام، (ومن دخله كان آمنا).
وظل النبي يحرس السلام، في يقظة وحكمة، فقد قتل قتيل بالمدينة ولم بعرف قاتله، فصعد