البلدان وأحوال الشعوب، ثم ترقت في البحث فلم تتعد النظر في الأثر الذي تحدثه الأشياء في عالم الحس، ثم تجاوزت البحث في ذلك إلى النفس والروح فالقوة الإلهية فعرفها بالعلة الأولى أو الخالق الحكيم الظاهرة حكمته في مخلوقاته. وكان أبو بكر محمد زكريا الرازي زعيمها، وكان طبيباً حاذقاً وفيلسوفاً طبيباً.
فالفرق ظاهر بين الفرقين؟ فالفرقة الثانية التي زعيمها الرازي كانت تبحث فيما ظاهر للعيان وملموس بالحس وتقنع بصفاته وقوة أثره في غيره من الموجودات. أما الفرقة الأولى فرقة المتكلمين التي كان رئيسها الفارابي فكانت تقدر الأشياء بوجودها فتسمى في إثبات ذلك الوجود أولاً، فالفارابي كان إذن زعيم أكبر فرقة فلسفية في عصره. لقد قال الأستاذ محمد لطفي جمعة مقال له عن الفارابي في المجلد من المقتطف ونشر مضامينه كتابه (تاريخ فلاسفة الإسلام) - أن مبدأ انشقاق فلاسفة المسلمين كان في أواخر القرن الثالث الهجري لكن دي بوير في كتابه (تاريخ الفلسفة في الإسلام) خالفه في تحديد زمن ذلك الانقسام فحدثنا أنه كان في القرن الرابع الهجري والحقيقة أنه من الصعب تقسيم الحركات الفكرية إلى فصول زمنية؛ فليس هنالك حدود فاصلة دقيقة تقطع التيار الفكري إلى قطع متمايزة، فهي كلها تؤلف أحجاراً متلازمة وأجزاء مترابطة في هيكل الحياة الفكرية. فكثير من الأفكار والمبادئ الشائعة اليوم والمهيمنة على القسم المعمور من الأرض تجد جذوره إلى أقدم العهود التاريخية، فلو تصفحت (جمهورية أفلاطون) مثلا لوجدت فيها طائفة من الأفكار الحديثة التي يعتقد الناس خطأ أنها وليدة العصر الحديث وأنها من نتاج أبناء اليوم؛ وكذلك القول في (رسائل إخوان الصفا)
على أن هناك من ينكر هذا الانشقاق في تجاه الفلاسفة. وإني عند ما درست شرح إشارات لبن سينا للطوسي والشوارق للاهجي وشرح منظومة السبروارى في الفلسفة ودرست حاشية الملا عبد الله وشرح الشمسية وشرح منظومة الشيخ هادي شليلة في علم المنطق وغيرها من كتب الفلسفة الإسلامية ودرست في علم الكلام شرح تجريد الطوسي للعلامة الحلي؛ أقول عندما درست هذه الكتب الفلسفية في مدارس النجف الأشرف الإسلامية لم أجد أستاذننا يقسمون فلاسفة المسلمين إلى هاتين الطائفين، وكانوا رحمهم الله يخلطون بين أقولهم جميعاً في مزيج واحد؛ ولكن دي بوير يصر هذا التقسيم فيقول في كتابه (تاريخ