وربا الفضل نوع من الاتجار في الأثمان وفي النقد وعمل من أعمال البرصة ومضاربتها وهو من علل حضارة غنية مرفهة؛ فقد كان نقد الفرس بأيد العرب يعلو ويهبط تبعاً لانتصارهم أو هزيمتهم، وكذلك نقد الروم، فتضطرب الثروة في أيدي الناس وينتهز الفرصة البصيرون النهازون كما يفعل اليوم تجار النقد. وقد عالج الإسلام أصلح علاج - الذهب بالذهب والفضة بالفضة، مثلاً بمثل، يداً بيد.
والقرآن يشهد للعرب بحضارات سالفة بائدة - فهم على دين أبيهم إبراهيم، وأرسل إلى العرب من العرب رسل منهم هود وصالح وشعيب ولكل رسالة دين وفي كل دين حضارة.
وطبيعة البلاد العربية وموقعها في وسط الدنيا تأبى أن تكون بمنأى عن الحضارات وأن يعمرها قوم منعزلون متأبدون فطريون. فمنذ أقدم عصور التاريخ كانت الجزيرة العربية وبواديها قناة التجارة بين الشرق والغرب من قبل تقد قناة السويس؛ بل أن طبيعة الجزيرة اليوم تعمل في قوة وسرعة لتسترد قناة التجارة إلى مسالك بواديها. ولا يغفل عن ذلك إلا من سد أذنه وأغمض عينه. فالسيارات القوية العاتية والوثيرة المريحة ما بين البصرة وبيروت في يومين، وللسرعة حسابها في التجارات وفي هذه الأيام خاصة. وقناة السويس تنظر بخضوع وحسرة - أن لم تكن غافلة - إلى هذا المنافس الذي يحاول أن يسترد من بين يديها الثروة والغنى والمجد - والصحاري كالبحار تكون عازلة حتى إذا مهدت وذلك كانت سبيل القرب وهمزة الوصل والذين اجتازوا البوادي العربية ورأوا طبيعتها الحجرية لا الرملية دهشوا لهذا الفجاج التي مهدتها الطبيعة وسوتها يد الله. وقد شهدت عشرات من الرجال مهدوا بأيديهم أميالاً من الطرق لتمر بها سيارات الملك أبن السعود وسيارات جنده، كل ما عملوا أنهم كنسوها من صغار الحجارة التي تسمى عندهم (بالحراجل).
والمنقبون لا يزالون يكشفون عن آثار حضارات عظيمة في اليمن وشمال الحجاز وبطرة وتدمر والحيرة فهل يقبل أن تقوم هذه الحضارات في نواحي الجزيرة وإخوانهم في جوفها بدائيون غير متحضرين؟
والآثار تشهد أن تلك الحضارات كانت تجارية، من التجارة ثروتها وربحها، وعليها قيامها وبقاؤها. والتجارات تأتي من طرف الجزيرة إلى طرف وتمر في مسالكها، ولا بد لهذه المسالك من الاطمئنان والأمن، ولا يكون ذلك إلا في ظل حضارات وسلطان قوي.