والتعليل والتعصب لآرائه شأن معظم الذين يكتشفون لوناً جديداً من ألوان المعرفة فيندفعون في حماستهم دون التريث ولا إمعان. متخطين فروع المعرفة الأخرى بالرغم مما فيها من عناصر وحقائق لا تقبل جدلاً ولا إنكاراً.
واندفع دير كهايم في أبحثه ينادي بما فحواه أن وظيفة الدين الاجتماعية يجب أن تفوق وظيفته الروحية؛ وهذا ما يستدعي في نظر دير كهايم أن يتحكم علم الاجتماع في رقبة الدين وتعاليمه.
وقام باريتو (وهومفكر إيطالي جليل الشأن) يصلح ما أفسده دير كهايم بطريقة غير مباشرة. فأصر باريتو في تراثه الضخم أن سلوك الجماعة (السلوك الجماعي عند دير كهايم) ينقصه في أغلب الحالات الرشاد والإدراك الإيجابي الشامل بطبيعة الأشياء ومعانيها الكاملة. وأن من المستحيل أن يتحقق للجماعة في سلوكها الرشد المنطقي كما اصطلح باريترد على تسميته ولذلك فتحكم علم الاجتماع (السوسيولوجي) في رقبة السلوك الديني مناف للمنطق السليم؛ ذلك ألان علم الاجتماع يستمد عناصره من سلوك الجماعة ويبني مبادئه واستنتاجاته عليها. وهذا السلوك كما أصر (باريتو) بينه وبين المنطق السليم صداقة مفقودة.
لعل من المفيد أن نسجل هنا بأن دير كهايم أخذ فيها بعد بوجاهة هذه الآراء التي بشر بها (باريتو) فعدل من تطرفه ثم أمعن في دراسة (الحقائق المادية الملموسة) على ضوء فلسفة المعرفة ليثبت أن معرفة الناس للحقائق المادية لا يمكن أن تقرر على أساس المحسوس والملموس. وكان هدف دير كهايم أن يثبت للطبيعيين أن استشهادهم بالحقائق المادية في تهجمهم على الدين هو استشهاد باطل. فالناس لا يعرفون الأشياء بخواصها المميزة وأوصافها الطبيعية فحسب وإنما يعرفونها بالأفكار والمشاعر والاحساسات التي تؤثر بها تلك الأشياء في سلوك الفرد والمجتمع.
فالفلاسفة مثلاً هم نقيض العلماء الطبيعيين من حياتهم (أي الفلاسفة) شغلو بمصادر المعرفة غاضين الطرف في أكثر الحالات عن العالم الطبيعي الذي يعيش الناس فيه.
ومثل هذا الإهمال ينطبق بصورة عكسية على اتجاهات العلماء الطبيعيين الذين حصروا اجتهادهم في التعرف على الحقائق المادية في الأجسام والظواهر الطبيعية (الفيزيولوجية).
وكلا الاتجاهين ناقص في رأي دير كهايم. فالكمال في البحث العلمي لا يتم إلا بالتعرف