اخترنا له هذا النوع من الروافع الاجتماعية إذ تتكافأ القوة مع المقاومة ويتسبق إلى القمة تراث الأمس وهدف الغد على غير نفرة بينهما أو شذوذ؛ إذ هما أشبه بضلعين متساويين في مثلث متساوي الأضلاع، قاعدته الثابتة العلم الراسخ بحقائق الأمور.
ولا يخفى أن البعد أو القرب من محور الارتكاز يرجع إلى مقدار تكافؤ القوة والمقاومة، وتبعاً لذلك تكون رسالة العلم سريعة الأداء إذا توافرت الذخيرة الأخلاقية، وتعددت القوى والأثقال، وعندئذ فقط تستجيب المقومات الحضارية، وتضطر إلى المعادلة، وإلا اضطرب الميزان، واختلت روافع المجتمع، وشالت كفة ورجحت أخرى.
والمجتمع الذي هو من هذا النوع يشبه (الكماشة) لأن محور ارتكازه (العدل) الذي يوطد أركانه قوة مطلقة من (القانون) وهنا فقط نستطيع التغلب على (الجريمة) التي لن تفلت من فكي الكماشة ما دامت عين القانون ساهرة، وقادرة على التوغل في كل وكر فتسلط أنوارها الكاشفة على جسم الجريمة بصرف النظر عن المجرم مهما تكن قرابته أو عصابته أو مكانته، بل الكل سواء بلا تفريق.
والمجتمع الثاني هو الذي تكتمل فيه عناصر الرافعة الثانية، فتكون المقاومة بين محور الارتكاز والقوة، كما في (كسارة البندق) حيث ترتكز على مفصلها، وتوضع البندقة قريباً من المحور، وتضغط اليد على أقصى الطرفين لتحاول كسر البندقة التي تقاوم حسب استعدادها، وتبعاً للضغوط المتتالية عليها.
وفي رافعة هذا المجتمع يكون (الاتحاد) قوة و (السياسة) مقاومة، ومحور ارتكازهما هو (الاستقلال) فإذا ارتكز المجتمع على الاستقلال التام استطاع أن يقاوم مقومات تقدمه، وأن يفك الأغلال والأصفاد التي تحول بينه وبين الانطلاق، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتضافر الأفراد واتحادهم جميعاً كأصابع اليد الواحدة في قبضتها على يد الكسارة، وعندئذ لا يكون لإصبع حق في ادعاء الظفر، وإنما الفضل للوحدة المتصلة لا للفرقة المنفصلة.
وعوامل الاتحاد في المجتمع الرفيع ميسورة لا تستعصي على الإمكان. أليس الدين يدعو إلى وحدانية الله واتحاد العباد ووحدة القبلة؟ أليس العلم في مجمله ومفصله يفترض العقل الذي هو أعدل الأشياء توزعاً بين الناس؟. . أليست الحقيقة متمثلة في حاصل جمع عددين أو باقي طرحهما، وإنه إذن لصواب أو خطأ، ولا مجال لجدال.