وفي غضون الحرب المنقضية ضاق (الخليل) ذرعاً بظلام الإسكندرية وغاراتها المتوالية، فغادرها إلى أطراف المدينة (وفي الأطراف تغشى منازل الكرماء) حيث أقام لنفسه مغنى في صحراء سيد البشر، وهنالك بين المهامة البيد والتنائف الفيح، كان ينعقد مجلس الشعر، أو مجلس البحر كما سماه فيما بعد، وتدور على الحاضرين كؤوس الطلا مترعة، ويتسارقون ألواناً من أدب شيبوب وكرم شيبوب.
وأذكر أني زرته مرة في مغناه هذا، فهتف بي: هلم بنا يا أخي نتحرر من قيود المدينة واصفاد المدنية، هيا بنا إلى البادية الشاسعة نعش على الفطرة كآدم الأول.
وانطلقنا معاً في هاتيك التلال الرملية، وجمعنا حطباً أضرمنا فيه النار، ثم صنعنا شراب الشاهي السائغ، وأنشأنا نتذوقه رشفة بعد رشفة كما يفعل الأعراب المحيطون بنا في ذياك المكان البعيد.
ولقد سمعنا قبل أيام أديباً كبيراً يقول: إن خليل شيبوب كان بقية (اليازجية) الذين ملئوا ربوع الشام فضلاً وأدباً وعلماً، أو أنه كان امتداداً لعهدهم وإن لم يكن من سلالتهم. ولقد نبالغ نحن فنقول إن الخليل كان آخر من يستحق لقب (أديب) من طائفة الذين هبطوا الإسكندرية واتخذوها مستقراً ومقاماً. فليس فيهم - مع الأسف - الآن كاتب بارز ولا شاعر مبين.
ولقد تحدثنا فيما أنف عن شعر خليل شيبوب في إيجاز شديد ولا بأس من أن نورد فيما يلي نماذج من شعره فهو يصبو إلى الإسكندرية ويرسل فيها هذا اللحن العذب:
هداك بصدري حادث وقديم ... وعهدك عهدي راحل ومقيم
وأنت كما شاء الجمال حبيبه ... وأم كما شاء الحنان رءوم
فلو نطقت فيك الحجارة حدثت ... عن المجد مرفوع اللواء عظيم
وله قصيدة عنوانها (صوت الرجاء) يقول فيها:
السقم يأكل من عزمي وجلدي ... والحب يأكل من روحي ومن كبدي
لذا فزعت إلى الكاسات اشربها ... صرفاً وتشرب من عقلي ومن رشدي
أشكو غلى الخمر همي وهي تسلبني ... عقلي مخافة أن أشكو إلى أحد