في الفطن الحمثة، وإنما يسمو الكلام ويرتفع بقدر سمو طبع قائله، وشرف نفسه وصفاء روحه؛ وليس معنى هذا أن ابن شهيد يطلق الكلام في الحط من قيمة علوم اللغة والغريب، أو ينكر فائدتها في تكوين شخصية الأديب، بل إنه يقر بفضلها ويعترف بفائدتها كعامل مساعد على نمو الطبع وتقوية الروح، إلا أنه يرى أن استعمال الغريب واستخدام النحو مما يحتاج إلى الدقة والبراعة، فليس من الفصاحة أن تخرج العبارة في أي وضع نحوي، أو تجري غريب اللغة على أي وجه كان، ولكن الفصاحة أن تختار أملح النحو وأفصح الغريب، بمعنى أن تكون العبارة على الوضع النحوي الذي يتفق والمعنى البياني، وبمعنى أن تكون الكلمات الغريبة في وضعها اللائق، ومكانها المناسب، فإن بين الألفاظ قرابة يجب أن تراعى في الوضع. وقد جلا ابن شهيد هذه النظرية الدقيقة في حكاية رواها عما كان يقع بينه وبين تلاميذه فقال:(جلس إلي يوماً يوسف الإسرائيلي، وكان أفهم تلميذ مر بي وأنا أوصي رجلاً عزيزاً علي من أهل قرطبة، وأقول له إن للحروف أنساباً وقرابات تبدو في الكلام، فإذا جاوز النسيبُ النسيبَ، ومازج القريبُ القريب، طابت الألفة، وحسنت الصحبة، وإذا ركبت صور الكلام من تلك حسنت المناظر، وطابت المخابر. أفهمت. قال: إي والله، قلت وللعربية إذا طلبت، وللفصاحة إذا التمست، قوانين من الكلام من طلب بها أدرك، ومن نكب عنها قصر. أفهمت؟ قال: نعم، قلت وكما تختار مليح النحو وفصيح الغريب وتهرب من قبيحه، قال: أجل، قلت: أتفهم شيئاً من عيون كلام القائل:
لعمرك أني يوم بانوا فلم أمت ... خفاتاً على آثارهم لصبور
غداة التقينا إذ رميت بنظرة ... ونحن على متن الطريق نسير
ففاضت دموع العين حتى كأنها ... لناظرها غصن يراح مطير
فقال: إي والله، وقعت (خفاتاً) موقعاً لذيذاً، ووضعت (رميت) و (متن الطريق) موضعاً مليحاً، وسرى (غصن يراح مطير) مسرى لطيفاً، فقلت له أرجو أنك تنسمت شيئاً من نسيم الفهم، فأغد علي بشيء تصنعه. وكان ذلك اليهودي ساكتاً يعي ما أقول، فغدا ذلك القرطبي فأنشدني: