للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أيمم ركبانهم منعجا ... وقد ضمنوا قلبك الهودجا

واستمر إلى آخر القصيدة فأتى بكل حسن. فقال لي ذلك القرطبي شعر اليهودي أحسن من شعري، قلت: ولا بأس بفهمك إذا عرفت هذا، ولم يزل يتدرب باختلافه إلى حتى ندى تربه، وطلع عشبه، ثم تفتح زهره، وضاع عبقه. .).

والظاهر أن مسألة استعمال الغريب واختيار الألفاظ كانت من المسائل التي شغلت أذهان النقاد في عصر ابن شهيد وقبله، فقد عالج هذه الناحية أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين، وكان من رأيه (أن تخيّر الألفاظ، وإبدال بعضها من بعض من أحسن نعوت الكلام وأزين صفاته، فإن أمكن مع ذلك منظوماً من حروف سهلة المخارج كان أحسن له، وأدعى للقلوب إليه. . . فينبغي أن تجعل كلامك مشتبهاً أوله بآخره، ومطابقاً هاديه لعجزه، ولا تتخالف أطرافه، ولا تتنافر أطراره، فتكون الكلمة منه موضوعة مع أختها، ومقرونة بلفقها، فإن تنافر الألفاظ من أكبر عيوب الكلام) والظاهر أن العسكري قد تابع غيره في هذا الكلام، فقد روي عن أبي أحمد. . أنه قال: (كنت أنا وجماعة من أحداث بغداد ممن يتعاطى الأدب، نختلف إلى مدرك نتعلم منه الشعر. . فقال لنا إذا وضعتم الكلمة بلفقها كنتم شعراء) وقد يطول بنا القول، لو أخذنا نتقصى أقوال النقاد في هذه الناحية، وإنما آثرنا كلام العسكري لأنه في مجموعه قريب الشبه بكلام ابن شهيد، فقد قال بتآخي الكلمات، وتخير الألفاظ، ومراعاة الحروف، وهذا هو معنى قول ابن شهيد: (إن للحروف أنساباً وقرابات تبدو في الكلام، فإذا جاور النسيبُ النسيبَ، ومازج القريب القريب، طابت الألفة، وحسنت الصحبة) إلا أن كلام ابن شهيد أدق وأعم، كما إنه يمتاز بالقول في اختبار الوضع النحوي للكلام مما سمها ملاحة النحو، وهذا ما لا يسبقه إليه أحد من النقاد، فحبذا لو درج الأدباء في أساليبهم من هذه الجهة على النهج الذي أوضحه ابن شهيد فإنهم يخدمون أساليبهم، ويخدمون لغتهم بإحياء كلمات اللغة المهجورة التي تصلح للاستعمال والتداول.

بقيت ناحية في كلام ابن شهيد السابق، وهي قوله بتأثير الأعضاء الظاهرة على الملكات الباطنة، فهذا كلام صادق إلى حد، بمعنى أنه لا يطرد في كل الشخصيات، فليس من الإنصاف أن نتخذه مقياساً للنبوغ، أو قاعدة نبني عليها الحكم على الآثار الأدبية، وليس أدل على هذا من إخفاق ابن شهيد نفسه حينما أراد أن يسوق الشواهد لإثبات هذا الرأي،

<<  <  ج:
ص:  >  >>