أشهدي فقد أهلكت بيدي ما أراد محمد أن يهلك به سلطاني. وقالت له الشمس: لا أسمع، فدخل في روع مسيلمة انه صوت حبيب، فهاله أن رآه وقد مات بين يديه، وصوته ما يزال يتردد مع أشعة الشمس، فإذا بهذه الأشعة كأنها رشاش الدم ينصب في وجهه فما يطيق دفعه، ولا يستطيع أن يتفاداه.
ألقى مسيلمة السكين من يده، في هدوء جمع بين النصر والهزيمة، وكأنما صحا من حلم يداعب خياله في نأمة الليل البهيم، فما هو إلا أن غشيته كتائب الإيمان تسيل بها (اليمامة) وتنقض على مسيلمة كأنها موت الفجاءة، وإذا بأم كأنها بمفردها كتيبة خرساء، درعها سابغة، وخوذتها شاملة، وكنانتها في منكيها، وسهامها منتضاة، وحرابها مختصرة.
وشمرت الحرب عن ساقها، وشرعت أم عمارة وبين يديها ابنها عبد الله تتفحص مسيلمة في عصابته فإذا بالفاجر المعمر يحوطه عبيده من كل جانب، فأشارت إلى ابنها، فرماه رمية استقرت في نحره، فانتفض عنه كل من كان حوله، فقام آخر وأجهز عليه بسيفه، وخلفه ملحمة للجوارح والكواسر.
لو أن أم عمارة كانت تقاتل مسيلمة انتقاما منه لقتله ابنها حبيب لهان الأمر، ولكنها والله جاءت لتقاتل في سبيل الله ولتكون كلمة الله هي العليا.
لهذا فهي تضارب القوم، وهذا شاب مغامر قد انفتل من شرذمة الباطل، وامتدت يده بالسيف إلى أم عمارة، يريد أن يزيل هامتها فأخلفته فما هو إلا أن طارت يدها في الهواء، والجراح موزعة في أجزاء جسمها، والدم تنزف منها على غير هدى، وإذا ترى ابنها يمسح سيفه بثيابه، ونظراته تشير إلى مصرع عدو الله مسيلمة، فانشق الدم المدرار عن بسمة من ثغرها، وسجدت لله الذي جعل ذاك الخبيث على يد ابنها، حتى انطوت في لحظة واحدة مائة وخمسون سنة قضاها مسيلمة يحارب الله ورسوله ويفتن المستضعفين، ويعذب المؤمنين، ويصد عن السبيل، ويحسب أنه من المهتدين.
وانطفأت فتنة الكذاب، وأخذت الدعوة سبيلها إلى القلوب وامتدت إلى الأمصار، وأم عمارة سيدة المجاهدات المسلمات، لم تثنها ضربة يوم أحد عن خوض غمار حرب يوم اليمامة، ولم يصرفها قتل ابنها حبيب عن دفع ابنها الوحيد عبد الله إلى الميدان، وما كان الجرح الغائر في عاتقها الذي لقيته من ابن قمئة ليصدها عن محاربة مسيلمة.