للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ينتهون إلى استكشاف الحقائق العلمية الصحيحة. ولكن معذرة فأني أنسيت أن خيال الشعراء غير خيال العلماء، فخيال الشعراء يصعد إلى السماء فيستوحي منها الحقائق، ثم يتنزل إلينا بعد ذلك لا تقبل الشك ولا تحتمل المراء. ولكن خيال العلماء يجري في الأرض ليستنبط منها الحقائق استنباطا ولم يتح الله له هذا الجناح الذي يستطيع به أن يطير في السماء، وأن يجوب أجواز الفضاء، ومن هنا كان الشعر مطمئنا إلى كل ما يقول، لأنه إنما يستوحي حقائقه من السماء، وكان العلم شاكا في كل شيء، غير مطمئن إلى شيء، لنه إنما يستنبط حقائقه من الأرض، ومن هنا رأينا العلماء حين يتصورون فرضا من الفروض لا يطمئنون إليه حتى يجرون عليه التجارب المختلفة التي تثبت صحته أو فساده، ورأينا الشعراء حين يتصورون أمرا من الأمور يضعونه في إطاره الشعري، ثم يقدمونه إلينا تحفة فنية رائعة، لا يبالون بعدها إن كان ما قالوا حقا أم باطلا، خطأ أم صوابا، ومن هنا كان العلماء في حاجة إلى القراءة والدراسة والبحث والاستقصاء، ولم يكن الشعراء في حاجة إلى شيء من هذا كله، لأنهم يدرسون في السماء، ويقرءون في الفضاء، ولا تقل: وماذا تريد إذن من الشعراء، أتريد منهم أن ينظموا الشعر في الأرض؟ أتريد أن تقص أجنحة خيالهم المحلق؟ أتريد أن تفسد عليهم شعرهم بما تسميه حقائق العلم ونظريات الفلسفة. لا تقل هذا فإني لا أريد من شعرائنا أن ينظموا شعرهم في الأرض، ولا أن يفسدوه بالعلم والفلسفة؛ ولكن تعال أسألك: من من الكتاب يستطيع أن يتناول موضوعا من الموضوعات الأدبية فيكتب فيه مقالا أدبيا رائعا دون أن يكون قد عرفه وفهمه ودرسه من جميع نواحيه، ولكن تعال أحدثك عن كثير من الشعراء الذين ينظمون القصائد الطوال في مواضيع لا يعرفونها ولا يعلمون من أمرها قليلا أو كثيراً، تعال أحدثك عن شوقي شاعرنا العظيم، إنك قد قرأت من غير شك قصيدته الطويلة العريضة التي قالها في (شكسبير)، فماذا فيها عن شكسبير؟. ليس فيها عنه إلا أنه يشبه شعره بالآيات المنزلة، ويشبه معانيه بعيسى المسيح، ويقول إن قصصه تمثل الحياة، وما عدا ذلك فهو كلام عام لا يشير إلى شكسبير من قريب أو بعيد، فأستحلفك بعقلك الذي يطمئن إلى حقائق العلم لا بنفسك التي تهتز لسماع الشعر، لو أن كاتبا أراد أن يتحدث عن شكسبير أكان يقول مثل هذا الكلام؟ بل أستحلفك بعقلك الذي يطمئن إلى حقائق العلم لا بنفسك التي تهتز لسماع الشعر، أيجرؤ

<<  <  ج:
ص:  >  >>