للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كاتب أن يتحدث عن شكسبير وهو لا يعلم من أمر شكسبير شيئا؟ ولكن معذرة فإني أنسيت أن الشاعر ذو خيال، وأنه يستطيع أن يصعد بخياله في السماء فينتقل به بين الكواكب السيارة والثابتة، ثم يتنزل إلينا بعد ذلك بأشعاره الحلوة العذبة التي لا تخلو من ضخامة ولا تبرأ من فراغ.

ستقول: وماذا تريد؟ أتريد أن تسكت الشعراء عن قول الشعر؟ إنك إذا استطعت أن تسكت الطائر الغرد عن تغريده أو تمنع الزهرة الأرجة عن أن تبعث عرفها، أو تمنع الشمس المضيئة عن أن ترسل ضوءها، استطعت أن تسكت الشعراء عن قول الشعر وأنا معك في أني لا أستطيع أن أسكت الشعراء عن قول الشعر، لأنه ينبعث منهم انبعاثا يوشك أن يشبه انبعاث الضوء عن الشمس والعطر عن الزهرة، ولكني أريد إليهم ألا يجعلوا حياتهم الشعورية والنفسية كل شيء، وأن يجعلوا لحياتهم العقلية نصيبا من عنايتهم، فأنا أعلم أنهم قالوا الشعر لما حباهم الله به من شعور مرهف وحس قوي وعاطفة دقيقة وخيال خصب، فكان الشعر أثرا لهذا كله ومظهرا لهذا كله، ولكن الله قد حباهم مع ذلك عقلا واسعا وتفكيرا ناضجا، فأين أثر هذا العقل وأين مظهر هذا التفكير؟ ستقول: ولم لا يكون الشعر أثرا من آثار العقل ومظهرا من مظاهر التفكير؟ وأنا أقول: إن الشعر لا يمكن أن يكون أثرا من آثار العقل ولا مظهرا من مظاهر التفكير، فالشعر بوزنه وقافيته ولفظه وخياله أضيق من أن يسع تفكير العقل إذا ارتقى وأخذ من العلم والفلسفة بنصيب لا بأس به، وأنت تعرف كيف نشأ النثر الفني عند اليونان والرومان، وكيف نشأ النثر الفني عند العرب، وكيف نشأ النثر الفني عند الأمم الأوربية الحديثة، فقد كانوا يقولون الشعر ويتغنونه في حياتهم الأولى، وكانوا يقولون الشعر ويتغنونه بحكم هذه الملكات الفطرية التي تنشأ مع الأفراد والجماعات والتي نسميها الحس والشعور والعاطفة والخيال، والتي تنمو وتنضج قبل أن ينمو العقل وينضج التفكير، فلما وصلوا إلى درجة من الحضارة والرقي ضاق عنها الشعر بوزنه وقافيته ولغته وخياله احتاجوا إلى أن يتحللوا من هذه القيود وما كان تحللهم من هذه القيود إلا نشأة لهذا الفن النثري الذي تراه راقيا قويا في الأمم التي بلغت من الرقي والحضارة أمداً بعيداً. لن يكون الشعر في يوم من الأيام مظهرا من مظاهر الحياة العقلية؛ ولكنه كان وسيكون مظهرا من مظاهر الحياة الشعورية والنفسية. وإذا كان الشعراء قد

<<  <  ج:
ص:  >  >>