برهنوا لنا بشعرهم الرائع على أنهم أصحاب حس قوي وشعور مرهف وخيال خصب، فقد بقي عليهم أن يبرهنوا لنا على أنهم أصحاب عقول ناضجة تستطيع أن تبحث وأن تفكر وأن تصل إلى حقائق الأشياء. وأنا أعلم أنك سترميني بالكر والكيد، وأني أريد أن أصرف الشعراء صرفا عن الشعر حين أدعوهم إلى أن يهتموا بحياتهم العقلية وأن يأخذوا أنفسهم بالثقافة الواسعة العميقة، ذلك أني أزعم أن الشعر أضيق من أن يسع تفكير العقول الراقية التي أخذت من العلم والفلسفة بنصيب كبير، وفي الوقت نفسه أدعوهم إلى هذا الرقي العقلي والتعمق العلمي والفلسفي، فماذا أريد من ذلك إلا أن أهيئهم تهيئة جديدة لا يستطيعون معها قول الشعر. ويجدون أنفسهم مضطرين إلى أن يهجروه إلى هذا الفن النثري أو هذا النثر الفني الذي يجدون فيه مجالا واسعاً لأفكار عقولهم بعد أن ضاق الشعر عنها، ولم يتسع بوزنه وقافيته لها. ستقول هذا كله، وأنا معك في أني أريد أن أصرف الشعراء عن الشعر، لأني لا أحب لهم أن يظلوا في مرتبة الأمم البدائية التي تقول الشعر وتتغناه في حياتها الأولى؛ وإنما أريد أن يتجاوزوا هذه المرتبة إلى مرتبة الأمم التي ارتقت في الحضارة وتقدمت في الحياة العقلية وعرفت هذا النثر الفني الذي يتسع لأفكار عقولهم الراقية المثقفة. إن الشعر أول مظهر من مظاهر الفن في الكلام لأنه لغة الحس والشعور والخيال. ولكن النثر آخر مظهر من مظاهر الفن في الكلام. وإنما أحب أن يتجاوزوه إلى المظهر الأخير من مظاهر الفن في الكلام، لأني أحب أن يتطوروا في فنهم كما يتطورون في حياتهم، فأنا أفهم أنهم يصوغون الشعر في حياتهم الأدبية الأولى لأن عقولهم لم تكن قد ارتقت وأخذت بحظها المقدور لها من الثقافة. ولكني لا أفهم أن يظلوا طول حياتهم يصوغون الشعر ليس غير لأن معنى هذا يعيشون خرس العقول فصحاء الخيال، ولأن معنى هذا أنهم ينفقون حياتهم بعيدين عن هذه الحياة العقلية الراقية، بعيدين عن هذه الثقافة الواسعة العميقة التي لا يستطيع أن يستغني عنها كل إنسان أن يعيش عيشة راقية في بيئة راقية. وأنا كما تعلم كنت شاعرا في مبد حياتي الأدبية. ولقد قلت الشعر ما اتسعت أوزانه وقوافيه ولفظه وخياله لما يجول في نفسي من معان وخواطر وعواطف، فلما ارتقت حياتي العقلية وأصبح الشعر أضيق من أن يتسع لأفكاري الناضجة رأيتني مضطرا إلىأن أنصرف عنه إلى هذا الفن النثري أو هذا النثر الفني.