كانت فاتحة كلامه على حياته فلسفية صوفية، والفلسفة كيف للمفكرين أمثاله، إذ كان يرى أن وجوده نتيجة محتومة لكل ما مر عليه وعلى أهلية من أحداث، ثم جعل يتغلغل في مظاهر هذا الوجود وبواطنه، حتى صار معه الرأس إلى أن يجد نفسه عالما وحده، خاضعا لعوامل التأثر النفسي والوراثي والرؤية العينية والمناهج العقلية والعلمية.
ويدفعنا المؤلف برفق وهوادة إلى مشاهدة البلدة التي نشأت فيها أسرته المصرية؛ فيصور الفلاح الكادح الذي كان يعاني العنت والاستغلال حتى أصاب أهل المؤلف لظى ذلك الجور فنزحوا إلى القاهرة وكان أبوه عالما فقيها فأحي أن ينشئه نشأته. وحين صور الأستاذ أحمد أمين أثر المدرسة التي طبعته بطوابعها وجد البيت هو المدرسة الأولى التي تعلم فيها أهم دروسه في الحياة.
ما أروع حادثة مولده ورضاعه! إنه ليصورها محفوفة بضربة قاصمة من ضربات المقدور، فقد اتفق أن نهضت أخت له في مستهل العمر لكي تعد القهوة لبعض الضيوف وكانت أمه حاملا به، غير أن النار هبت في أخته فما استطاعت أن تطفئها، ولم يدركها أهلها إلا وهي شعلة من نار، فتغذي وهو جنين دما حزينا ورضع لبنا حزينا، ويرد هذا السبب وأمثاله إلى طبيعته ومزاجه، فيتساءل: هل كان لذلك أثر فيما غلب عليه من الحزن في حياته؟
ولقد أحسست منه ذلك فيما فاضت خواطره، وفيما كنت أنصت له من حديثه، فأسمع فيه هدوء المحزونين، وأحس في سمته وفي نبرات صوته ولهجته شجوا حيرني تعليله حتى قرأت كتابه (حياتي).
ويتدرج المؤلف في مذكراته من بيته إلى المدرسة الثانية التي كانت حارثته وجيرته، ثم يتهادى إلى (الكتاب) مصورا لنا (كتابه) وشيخه و (الفلقة) المعلقة على الحائط وعصا الشيخ الذي يقولون له بمصر (سيدنا) وحين وصف لوحه تذكرت الجاحظ الذي صور لنا الشيخ في كتاب زمانه، والتلميذ وهو يمحو لوحه فقلت: إن مياسم الشرق واحدة في القديم والحديث وقد أثارت هذه الذكرى في خاطري صورا رائعة للدكتور (طه حسين) ذكرها في (أيامه) ما كان أجملها وهو يقرأ القرآن بين يدي شيخه القاسي الوقور
إن كثيرا من الناس لا يعرفون أن الدكتور أحمد أمين بك نشأ بعمامة وجبة كنشأة أترابه