للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

عقلية قوميهما بتقدم العلوم وارتقاء الحضارة فتغيرت الأساليب واختلفت طبيعة أدبيهما لاتصالهما بحياة الناس عن طريق القصص والتمثيل فاختلفت المذاهب. أما قديم العربية فهو جديد أبدا، وأما جديدها فهو قديم أبدا. لا نجد فرقا جوهريا بين أساليب القرن العشرين وأساليب القرن السابع: الألفاظ هي الألفاظ، والنسج هو النسج، والأعراب هو الأعراب. فما يمتعنا من خطب زياد وسحبان وشبيب، هو ما يمتعنا من خطب النديم ومصطفى كامل وسعد زغلول. وما يعجبنا من نثر الجاحظ وأبي حيان والبديع، هو ما يعجبنا من نثر المازني والمنفلوطي والمويلحي. وما يطربنا من شعر البحتري وأبي فراس والمتنبي، هو ما يطربنا من شعر البارودي وشوقي وحافظ! كأنما نشأ هؤلاء جميعا في عصر واحد وشبوا على ثقافة واحدة! ولعل تعليل ذلك أن الشعر الجاهلي بأصالته، والقرآن الكريم ببلاغته، والدين الإسلامي بثقافته، هي العناصر التي يتألف منها المثال الفني الذي يحتذيه الكاتب والشاعر، فما تفرق مفترق إلا اجتمع عليه، وما تباعد متباعد إلا رجع إليه. فالشعر الجاهلي أقام عمود الشعر، والنثر القرآني أقر أسلوب الكتابة، والأدب الديني طبع الفكر العربي بطابع الرزانة والهدوء والسلفية؛ فهو لا ينفك يستهدي الوحي، ويسترشد السنة، ويستمهل الطفرة، ويستريب البدعة، ويصبغ نتائج القرائح المختلفة في الزمان والمكان بلون من التصور والتصوير لا يكاد يختلف ولا يتغير. فلو أن الزمان تأخر بالمتنبي ألف سنة لكان من الممكن أن يكون شاعر الخديوي عباس. ولو أنه تقدم بشوقي ألف سنة لكان من الجائز أن يكون شاعر سيف الدولة. وما نظن المصريين كانوا يقولون إن شعر المتنبي قديم، ولا الحلبيين كانوا يقولون أن شعر شوقي جديد!

إنما كان الاختلاف بين شاعر وشاعر، أو بين عصر وعصر، في الصور التي تلهمها البيئة والثقافة والحضارة، وفي الألفاظ التي تقرب أو تبعد عن لغة الجمهور ومألوف المجتمع. فبعض الشعراء يغترفون من قاموس المكتبة ولغة القرآن؛ وبعضهم يرتشفون من قاموس الجيب ولغة الصحف. والاختلاف على هذا النحو اختلاف في الشكل. والشكل حكمه حكم اللباس والأثاث والآنية، يتغير بتغير المكان والزمان والحالة. وما كان لأحد أن يختلف أو يختصم فيما لا حيلة فيه. ولكن النقاد الأقدمين جعلوا من اختلاف هذه الأشكال معركة بين القديم والجديد أداروها على اللفظ الجزل والركيك، والأسلوب الصفيق

<<  <  ج:
ص:  >  >>