أما القدوة على معرفة ما يمكن وما لا يمكن فليست تعني استحالة بعض الأشياء لأن هذه صفة سالبة، ولكنها تعنى وقوع الأحداث التي تظهر عسيرة جداً. إن الرجل السياسي العظيم لا يقول لنفسه (هذه الأمة حفيفية) ولكنه يقول هذه (الأمة نائمة وأني سأوقظها) إن القوانين والأنظمة والمؤسسات من صنع الناس ولذلك أستطيع أن أغيرها عند الحاجة.
وأهم من ذلك كله أنه يتبع العزيمة والتصميم أعمال لا أقوال فقط. إن صغار الأحلام من السياسيين ينفقون معظم أوقاتهم في رسم الخطط والدعوة إلى المذاهب. إنهم يتحدثون عن الإصلاح والبناء ويخترعون أنظمة اجتماعية معصومة من الخطأ ويسنون خططاً لسم دائم ولقد قلنا عند بحثنا في فن التفكير أن المشروع شيء والعمل شيء آخر إن السياسي الصحيح يعرف عند الحاجة كيف يحترم في خطبه العامة النظريات الحديثة ويصرح بعبارات جذابة بفائدة الرجال الذين يحرسون أبواب المعابد، ولكنه من حيث الواقع إنما يعمل لسد الحاجات الحقيقية التي تحتاج أليها الأمة. فهو يقول مثلا. إن فرنسا سنة ١٩٣٩ ينبغي أن تؤمن السلام قبل أي شيء آخر وأن تنشئ لنفسها دفاعا جويا بإنشاء عدداً أكبر من الطيارات وأن تزيد إنتاجها من الصناعات الأخرى، وأن تنظم أحوالها المالية تنظيما وطيداً. وهو يعمل على إنجاز هذه الأهداف الواضحة الصحيحة بأحسن الطرق التي يراها فإذا صادف عقبات في سبيله فأنه يدور حول هذه العقبات أما الغرور والكبرياء الثقافي والشعور بالحاجة الشديدة إلى نظام شديد زائد فأنها موانع خطيرة في وجه السياسي. وبعض زعماء الأحزاب على استعداد لتضحية بلادهم من أجل نظرية أو مجموعة من المبادئ. أما الزعيم الحقيقي فيقول: فلنتنح عن المبادئ ولنخلص البلاد) هل يكون علمه مبتورا؟ هل يعقب ذلك ظلم؟ إنه يدرك أن هذه ممكنات، وكل عمل معقد لا يتم بكامله. وفي كتاب (لجورج برنادو) يحاول كاهن مسن أن يعلم كاهنا صغيرا أن القديسين أنفسهم لا يستطيعون أن يحولوا ديرا إلى مجموعة من الأولياء ذوى الاستقامة والصدق التامين ولكي يدلل على هذا يروى الشيخ حكاية امرأة بلجيكية أرادت أن تحول كنيسة غير نظيفة إلى معبد نظيف مشرق النظافة فقامت على مهمتها وأخذت تزيل الغبار المتراكم ولكن طبقة من الغبار الجديد كانت تتراكم كل صباح كما كان العشب يبت هنا وهناك وتنسج العناكب