وإذا نحن تجنبنا نسبة القضية كلها إلى عوامل الحسد والغيرة التي أكلت قلوب النظراء - وخاصة العرب ومن يحطب في حبلهم - ثم إلى تمكن شهوة الانتقام عندهم من الرؤساء الأعاجم جميعا، في شخص هذا الذي أعيا كل عربي وعجمي أن يشق له غبار - فليس يفوتنا أن ننبه إلى ما تجلى من عوامل الحسد والغيرة ورغبة التشقي والانتقام كدوافع بارزة حركت القضية منذ بدايتها؛ وسارت بها إلى غايتها المرسومة من إهدار دم الأفشين.
وكان الذي أجرى محاكمته، بأمر المعتصم أو على الأصح بموافقته، الوزير محمد بن عبد الملك الزيات وشهدها معه أحمد بن أبي داود وإسحاق بن إبراهيم المصعبي وغيرهما من أعيان العرب. وكان المناظر له أبن الزيات.
على أن بوادر الانقلاب على الأفشين لم تظهر إلا بعد عودته من حرب الروم. إذ كان إلى ما قبل ذلك يتمتع بثقة الخليفة التامة حتى لقد دفع إليه بالعباس بن المأمون بعد ما ظهر من تدبيره خطة الانقلاب على المعتصم أثناء حصار عمورية. وظل بيده إلى أن قتل خلال العودة، في مدينة منبج من أعمال الشام.
بل لقد شفع الأفشين في هرثمة بن النضر وكان العباس قد سماه في عداد من انضموا إليه، فعفا عنه المعتصم وولاه الأفشين حكم الدينور.
وعلى كثرة من انغمسوا في المؤامرة من القواد كان الأفشين بعيدا عنها فلم يعلق به من جانبها شبهة ومع ذلك نجده محاطا بالأراجيف مأخوذا بالتهم منذ نجم أمر (مازبار بن قارن) كما سنشير إليه بعد. ثم نرى المعتصم يعزله عن الحرس ويوليه إسحق بن يحي بن معاذ. وبعد قليل تجري محاكمة الأفشين على الوجه الذي أشرنا إليه. والتهم التي ووجه بها كثيرة، ونحن نوجزها فيما يلي:
١ - أنه حرض مازيار بن قارن الحاكم بطبرستان على منابذة الطاهر أصحاب خراسان، ثم الخروج على المعتصم ولما قبض عليه أقر لدى المعتصم أن الأفشين كاتبه وحسن له الخلاف ووضع معه خطة لإحياء المجوسية. وفي رواية للطبري وابن الأثير أن المازيار زعم أن أخا الأفشين واسمه (خاش) كتب إلى أخيه (قوهيار) بذلك. وفي رواية ثالثة لأبي الفداء في البداية والنهاية أن المازيار: لما أوقف بين يدي الخليفة سأله عن كتب الأفشين إليه فإنكرها، فأمر به فضرب بالسياط حتى مات.