وكان ينفذ ببصره وفكره إلى طوايا المجتمع فيرى بقوة لحظة وحدة ذهنه دقائق وتفاصيل لا يدركها النظر العادي. ومزية الكاتب الموهوب أن يرينا ما لم نر، ويقفنا على ما لم نعلم، ويصور لنا ما لم نتصور، وفي كلمات قاسم أمين المنشورة آيات من الحوار والتصوير مثل بهما طرفا من نقائص العصر تمثيلا دل على ملكه أصيلة في الأدب، وقريحة سخية في الكتابة. نقرأ له مثلا هذا الحوار القصير:
سئل ح. بك: ما رأيك في كتاب تحرير المرأة؟
فأجاب: رديء!
- هل قرأته؟
- لا!
- أما يجب أن تقرأه قبل أن تحكم عليه؟
- ما قرأت ولا أقرأ كتابا يخالف رأيي!
وتقرأ له هذه الصورة الناطقة لجنازة من جنائز العامة:
(هؤلاء الفقهاء الذين يجرّ بعضهم بعضا، وليس فيهم إلا الأعمى والأعرج والأعور، يمشون بسرعة غير منتظمة، لابسين ثياب قذرة، صائحين بأصوات مزعجة، كلمات تخرج من حناجر مختلفة بنغمات شنيعة؛ وهذا النعش المحمول يتخبط فيه الميت، ويلتفت تارة إلى جهة اليمين، وتارة إلى جهة الشمال؛ وهؤلاء النسوة اللاتي صبغن أيديهن ووجوههن، وعفرن بالتراب روؤسهن، يمشين وراء النعش مشيرات بالمناديل إليه إشارات مروعة مصحوبة بألفاظ مرتلة! ما هذا كله؟ أمجمع مجانين، أم نفر بهم مس من الشياطين؟ ألعوبة أطفال، أم معرض كرنفال؟).
نقرأ ذلك الحوار، ثم نقرأ هذه الصورة، فنعتقد أن لو مدّ الله في أجل قاسم لعالج عيوب المجتمع بالرواية كما فعل (مولير)، أو بالصورة كما صنع (لابرويير). والأدب العالي والأسلوب البليغ أخص صفات المصلح وأقوى أدوات الإصلاح؛ وحظ قاسم منهما كان موفورا. وكما يتعهد الجندي سلاحه، كان قاسم يتعهد اللغة والأدب، فرأى في أصالة الأسلوب، واستعمال المترادف، ومعضلة الكتابة العربية، ومشكلة اللغة العامية، وصعوبة الإعراب، وفتح باب الاجتهاد في اللغة، آراء لم تجري على بالنا إلا اليوم! والصفحات