كما لم ينصره قائد؛ ثم محا ذلك كله بما تكشف من غدره واستبان من كفره.
ويخلص أبو تمام من احتجاجه للمعتصم، هذا الاحتجاج الذي حشد له عقله وعلمه ليعود إلى ذكر غدر الأفشين فيقول:
ما كان لولا فحش فجرة حيدر ... ليكون في الإسلام عام فجار
ما زال سر الكفر بين ضلوعه ... حتى اصطلى سر الزناد الواري
قال أبو العيناء: انصرفت يوما من عند ابن أبي دؤاد، فدخلت إلى محمد بن منصور، فوجدت عنده عمارة بن عقيل، وكان خلا له، وهو ينشده قصيدة له في الواثق، أولها:
عفت الديار رسومها قفر ... لعبت بها الأرواح والقطر
فلما فرغ منها قلنا له: ما سمعنا أحسن من هذه الرائية، أحسن الله إليك يا أبا عقيل. فقال: والله لقد عصفت رائية طائيكم هذا بكل شعر في لحنها. قلنا له: وما هي؟ قال: كلمته التي هجا بها الأفشين. فقال محمد بن يحيى بن الجهم: أنا أحفظها! فقال: هاتها. فأنشده:
الحق أبلج والسيوف عوار ... فحذار من أسد العرين حذار
فقال له عمارة: أنشدنا ذكر النار، فأنشد:
مازال سر الكفر بين ضلوعه ... حتى اصطلى سر الزناد الواري
ناراً يساور جسمه من حرها ... لهب، كما عصفرت نصف إزار
طارت لها شعل يهدم لفحها ... أركانه هدماً بغير غبار
ففصلن منه كل مجمع مفصل ... وفعلن فاقرة بكل فقار
. . . قال راوي الحديث: ثم ذكر المصلبين فقال:
سود اللباس كأنما نسجت لهم ... أيدي السموم مدرعاً من قار
بكروا وأسروا في متون ضوامر ... قيدت لهم من مربط النجار
لا يبرحون، ومن رآهم خالهم ... أبداً على سفر من الأسفار
فقال عمارة: لله دره! لقد وجد ما أضلته الشعراء، حتى كأنه كان مخبوءا له. قال أبو العيناء: فاعتقدت في أبي تمام من ذلك اليوم أنه أشعر الناس، وما كان ذا رأي من قبل!.
لقد نالت هذه القصيدة إذا غاية الإعجاب منذ إنشادها، وبلغت من ذلك حظا لم تنافسه فيه إلا قصائد لأبي تمام معدودة. منها - فيما نرى - قصيدتاه اللامية والنونية في الأفشين أيضا.