لهذا يهرعون إلى الزينات - في مثل هذه المناسبة - فيضربونها، وإلى الرايات فينصبونها.
أنظر إذا إلى الحوانيت ووجوهها، والمنازل وجبهاتها، والمسالك وجوانبها، في أحياء القلعة وما حولها، تر قطع الأقمشة من كل لون زاه، قد تألفت طوائفها، وتألقت طرائفها، والثريات الزيتية منشورة، زينة للنهار الحاشد المنتظر، وعدة لليل الحافل المرتقب. والشعب مجتمع شمله، ملتئمة صفوفه، يسود بين أفراده لغط وضجيج، وهمس وعجيج. بين أقاويل متشعبة، فيها الصدق والكذب، وفيها الحق والباطل، وفيها العدل والجور. وهم ما بين لهج لاه بما هو فيه من نشوة وسرور، سباق إلى اقتناص فرصته وبلوغ غايته، ومتحدث رزين يرسل الحديث في روية وبطء، كأنما يقرأ في سطور الحاضر مخبآت المستقبل، وناقد يمتزج في نفسه وحديثه، النقد السطحي العابر، بالرغبة الواهمة في أن يأخذ من البهجة الماثلة بنصيب؛ وناقد آخر لاذع في نقده، جرئ في لفتاته، شجاع في ملاحظاته.
وبين هذه الجموع الضاجة وقف صديقان يسترقان النقاش، وقد علا وجهيهما الجد، واختلفا طربا وصخبا، وخفة ولجاجة. وتقاتلا شعورا ورأيا؛ واستطردا إلى أشياء في الماضي، وأمور في الحاضر، وآمال في المستقبل.
قال أحدهما لزميله:
- لله ما أبهى اليوم، وما أجمل الساعة! هاهم أولاء المماليك السلطانية قد انتشروا في الطريق وهم شاكو السلاح، ليعصموا اليوم من الفوضى، ويشيعوا في الموكب النظام.
- أعلمت لهؤلاء نظاما؟ أو نسيت عبث الجلبان والقرانصة، وما بين الفريقين من عداوة وشحناء. إن هؤلاء وهم جنود الدولة، مبعث الفوضى، ومصدر السوء، ومثار الفساد. . . هم عباد المال والشهوات. يبذلون للسلطان الطاعة والولاء، ما دامت يداه تفيضان عليهم تبرا وذهبا وهاجا. ويفرق فوقهم شتى منحه وعطاياه، ويفرق عليهم ما لذ من الطعام، وما ثمن من الثياب، وما فره من الخيل، مزودة بما تحتاج إليه من أغذية وأردية. ثم يتنكرون له، ويلبسون جلد النمر، إذا تراخى في عطائه، أو ازورت عنهم دراهمه ودنانيره، أو بدا لهم في أفق السلطنة مانح جديد.