- نعم! ولكن لنا القشر ولهم اللباب. لعلك نسيت مسلكهم الشائن معنا نحن أهل القاهرة. إنهم كانوا - وما زالوا - يهتكون فينا ويسلبون منا. ثم هم إنما يمثلون الفتن والقلاقل والدماء المسفوكة، والأشلاء المتطايرة والسجن والتشريد. . .
إن حياتهم ملأى بكل هذا العذاب، ما بين سيد فيهم ومسود، وظالم منهم ومظلوم، وحاقد بينهم ومحقود عليه. . . هذه هي سياستهم وسياسة أمرائهم وكبرائهم. . . ألا تعسا لحياة تمتلئ بكل هذا الشقاء. .!
- ليست هذه الحالة دائمة بينهم، وكأنني أراك تقرأ تاريخهم من حاضرهم فحسب. . لعلك من أولئك الذين وهب لهم حس مرهف ونفس مستوفزة، تطن فيها الأحداث الحاضرة، حتى تملأ أذنيها. فلا تسمع بعد أي صوت من أصوات الماضي. . .
لقد كان الجنود المماليك في عصر المنصور قلاوون يعيشون على خير نظام وفي أجمل هندام. فقد وضع لهم هذا السلطان العظيم قواعد للتربية قويمة، وأخذهم بها دون لين أو هوادة أو مهادنة. فرباهم في طباق القلعة وأبراجها. ووكل أمرهم إلى الحذاق من الزمامين. وفرض عليهم التمرينات العسكرية والرياضية القاسية، وعنى بطعامهم وشرابهم ولباسهم. وكان يشرف على كل أولئك بنفسه، فشبوا رجال خلق كريم، ونفس قوية، ودين سليم. ولم يكن يسمح لهم بالاختلاط بغيرهم من الطوائف حفظا لهم من عدوى الأخلاق.
- حقا لقد رباهم المنصور تربية محمودة، ونشأهم تنشئة حسنة، ولكن سرعان ما عدل السلاطين من بعده عن نهجه، واتباع سبيله، ففتر هذا النظام وقلت تلك العناية، وفرط السلاطين في إعدادهم، حتى أصبحوا من بعد، وليس لهم نظام متسق، ولا تربية محمودة، ولا خلق كريم، ولا نفس طيبة، حتى صاروا:(أرذل الناس وأدنأهم، وأخسهم قدرا، وأشحهم نفسا، وأجهلهم بأمر الدنيا، وأكثرهم إعراض عن الدين. ما فيهم إلا من هو أزنى من قرد، وألص من فأرة، وأفسد من ذئب.)
- إنك متجن عليهم أيها الصديق! ألا تدري أنهم لنا حمى، ولحياتنا مجن؟ إننا ننعم بسلام في بيوتنا، وأمن في سربنا، على حساب ما يبذله هؤلاء الشجعان من أرواح. حقا يسرف أمراؤهم وسلاطينهم في فرض الضرائب على الشعب، ويثقلون كاهله بالنفقات إزاء