للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إذ كان يلبس جبة وقباء أثناء عمله في حقله، والمقام مقام ابتذال لا تناسبه هذه البزة القيمة، بل يتناسبه لبس جلباب أو نحوه، فملت إلى شيخ كان يقوم بخدمتنا خاصة - وكنت أعجب بعقله ودعته - وهمست في أذنه: (ألا ترى يا عم جارنا فلانا وما يلبس، يا لإسرافه وكبريائه!) وما أسرع أن همس الشيخ الأديب في أذني: (لا إسراف يا بني ولا كبرياء، بل هو الفقر) فكان عجبي لقوله أشد من عجبي لما يلبس جارنا، فسألته دهشا: (وكيف يا عم) فأجابني مبادرا: (لو كان فلان - يعني جارنا - يملك جلبابا صالحا يبتذله في الحقل للبسه، أفكان يظل قعيد بيته ويترك العمل في حقله، أم يخرج إليه عريان، أم يلبس ثوبا ممزقا قد يجده ولكنه يفضحه، إن هذا كله غير ممكن، فلم يبقى أمامه صالحا له إلا جبته وقباؤه فابتذلهما توقيا للزوم البيت وإهمال الحقل والفضيحة أمام الناس في الخروج، ولكنه مع هذا الزي وقع في فضيحة لا يفهمها إلا قليل، وشر أهون من شر) وأبي الشيخ - رحمه الله وغفر له - إلا أن يدل بمعرفته على الغلام المعتز بما وعى على أيدي معلمه وأبيه، وبما درس من كتب كان يعكف على قراءتها عكوف الوثني المخلص على وثنه، وأبى إلا أن يصدم غروره وما كان بغرور، فعقب على ذلك بقوله: (أفهمت أيها التلميذ النجيب؟ هذا علم ليس من الكتب يا بني) فأجاب الغلام (فهمت يا عمي، وصدقت فما تغني الكتب عن تجارب مثلك) وشغلته فراسة الشيخ عن الوقوف عند تبكيته وإدلاله، وكانت هذه الملاحظة من أول ما شكك الوثني في وثنه، وزعزع إيمانه به

والحق أنها ملاحظة صادقة تنطبق على جارنا الفلاح كما تنطبق على كل عبقري صاحب مذهب إصلاحي جديد حين يبتذل أصحابه فيستعملهم فيما هو دون كفايتهم وفضلهم مضطرا، إذ لا تتوفر الأعمال المناسبة لكل كفاية وفضل

ونحن نشير إلى هذا السبب لأنه أكثر شيوعا في حداثة الدعوة عند الضرورة، ولسنا غافلين عن غيره من الأسباب، فمثلا قد يحول العبقري مختاراً كمكره بين ممتاز من أصحابه والعمل الذي يناسبه، لأن إسناده إليه غير مأمون العواقب عليه وعلى العمل معا، إذ لا يزال العبقري غير واثق كل الثقة من القوى الكابحة في نفس صاحبه، ولا أمان لامتياز الممتاز إلا بهذه الكوابح الذاتية التي تحول بينه وبين الطغيان، فلو ضعف وطغى الممتاز لأفسده طغيانه وقد يفسد معه غيره، ولا احتمال لذلك والمذهب لم يستقر في السرائر

<<  <  ج:
ص:  >  >>