مقبول، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول، فالشريعة جاءت بتكليف الخلق، والحقيقة إنباء عن تصريف الحق، فالشريعة أن تعبده، والحقيقة أن تشهده، والشريعة قيام بما أمر، والحقيقة شهود لما قضي وقدر وأخفي وأظهر).
وعلوم الحقيقة هي العلوم الحائزة على جميع مراتب اليقين. ورد في التعريفات للجرحاني (علم اليقين ظاهر الشريعة وعين اليقين ظاهر الإخلاص فيها، وحق اليقين المشاهدة فيها).
ويقول القشيري في الرسالة (علم اليقين على موجب اصطلاحهم (أي الصوفية) ما كان بشرط البرهان، وعين اليقين ما كان بحكم البيان، وحق اليقين ما كان بنعت العيان).
ومن هذا يتضح لنا أن الصوفية يعتبرون علومهم علوماً يقينية حائزة لجميع مراتب اليقين، وهي أسمى من حيث يقينها عن سائر العلوم التي تعتمد على العقل وبراهينه واستدلالاته، وهذا اليقين الذي تتميز به علوم الحقيقة عن سائر العلوم هو يقين كشفي يتحقق به العبد متى سلك طريق الصوفية.
ولعله قد أتضح لنا الآن من خلال تقسيم الصوفية للعلوم إلى علوم باطنة أن المعرفة على نوعين: النوع الأول معرفة عقلية ظاهرة تعتمد على العقل وأنظاره واستدلالاته، وعرفة باطنة ذوقية لا مدخل للعقل أو الحس فيها، وإنما هي من قبيل المكاشفات، وهذه المعرفة الذوقية الباطنة التي لا تعتمد على العقل أو الحس تتخذ من القلب أداة لها. وفيما يلي توضيح ذلك:
إن الصوفية لا يعتمدون على العقل، ولاسيما إذا كان موضوع معرفتهم هو الله سبحانه وتعالى؛ إذ أن العقل عاجز عن إدراك حقيقة الذات الإلهية، ولا يستطيع أن يتوصل إلى إدراك كنهها بضرب من القياس أو الاستدلال النظري. ويصور فريد الدين العطار - وهو من كبار شعراء الصوفية من الفرس - عجز العقل عن إدراك الله تصويراً بالغ الروعة فيقول (ذهبنا وراء عالم العقل والفهم، العقل لا يجدي عليك، إنما يأتي إليك بما يأتي به غربال من بئر. إنما يحاول العقل أن يدرك في هذا العالم، ولكن هذا العقل الذي يفقد نفسه بجرعة من الخمر لا يقوي على المعرفة الإلهية، العقل أجبن من أن يرفع الحجاب ويسير قدماً إلى الحبيب.
وحقيقة الأمر عند الصوفية أن ذات الإلهية تدرك إدراكا مباشراً، لا مدخل للعقل فيه، وذلك