بواسطة أداة أخرى في الإنسان يسمونها عادة بالقلب، فالقلب هو مركز المعرفة، والله سبحانه وتعالى الذي يقذف بالمعرفة في هذا القلب، فيصبح صاحبه عارفاً محيطاً بكل شيء فالمعرفة لدنية بهذا المعنى، أي أنها من لدن الله عز وجل.
ويسوق الغزالي في كتابه علوم الدين مثالاً محسوساً رائعاً فيه كيف يكون القلب أداة للمعرفة الصوفية فيقول (لو فرضنا حوضاً محفوراً في الأرض أحتمل أن يساق إليه الماء من فوقه بأنهار تتفتح فيه، ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض ويرفع منه التراب إلى أن يقرب من مستقر الماء الصافي فينفجر الماء من أسفل الحوض ويكون ذلك الماء أصفى وأدوم، وقد يكون أغزر وأكثر، فذلك القلب مثل الحوض والعلم مثل الماء وتكون الحواس الخمس مثل الأنهار، وقد يمكن أن تساق العلوم إلى القلب بواسطة أنهار الحواس والاعتبار بالمشاهدات، حتى يمتلئ علماً، ويمكن أن تسد هذه الأنهار بالخلوة والعزلة وغض البصر، ويعمد إلى عمق القلب بتطهيره ورفع طبقات الحجب عنه حتى تتفجر ينابيع العلم داخله).
ومن هذا النص يتبين لنا الصوفية لا يعتمدون على الحواس الظاهرة في تحصيل علومهم، وإنما يعتمدون على القلب فيأخذون أنفسهم بتطهيره من شوائب الحس وأدران المادة حتى تنكشف عنه الحجب، ويصبح قادراً على إدراك الحقائق وقد أشار إلى هذا المعنى الأستاذ زينون نيكولسن بقوله (إن الصوفية لا يستعلمون اسم القلب للدلالة على تلك المضغة الجاثمة في الصدر، بل يعنون به جوهراً لطيفاً غير مادي تدرك به الحقائق الأشياء وتنعكس عليه كما تنعكس الصور على المرأة. . . ولكن مقدرة القلب على أدراك الحقائق وقبول صورها رهن بصفائه؛ لآن حجبه تختلف لطافية وكثافة بحسب ما يؤثر فيه من الحواس والشهوات والمعاصي وحب الذات، ولكن بمقدار ما ينكشف عن القلب من هذه الحجب وتكون قدرته على المشاهدة وإدراك الحقائق).
ومن كل ما سبق نستطيع أن نقرر أن الصوفية اتخذوا من القلب أداة لمعرفتهم، فهم لا يعتمدون على الحس وما يصطنعه أصحاب الحس من مناهج، ولا يعتمدون على العقل وما يصطنعه أهله من بحث نظري واستدلال منطقي، وإنما هم يعمدون إلى الذوق ومعنى هذا بعبارة أخرى أنهم يصطنعون منهجا خاصا بهم في المعرفة.
فما هو هذا المنهج وما هي خصائصه الميزة له؟ وفيما يلي الجواب على ذلك: