عنه، ورأى أن الابتسام الذي كان يلقاه به تبدل عبوساً، وأن الثقة أصبحت شكاً، وأن الأمر صار على خلاف ما كان، ولم يشك أن الوشاة وعلى رأسهم ابن عبدوس قد نفثوا سمومهم في صدر ابن جمهور وقد فعلت هذه السموم فعلها فكتب إليه قصيدة يستعطفه جلية الأمر، ولكنه لم يستطيع أن يغالب نفسه الكبيرة وغروره القتال فأظهر فيها إباءه وشمسه واستعلاء نفسه. ومنها:
مالي وللدنيا؟ غررت من المنى ... فيها ببارقة السراب الخادع
ما إن أرال أروم شهدة عاسل ... حميت مجاجتها بإبرة لامع
من مبلغ عني البلاد إذا نبت ... أن لست للنفس الألوف بباخع
فليرغم الحظ المولى أنه ... ولى فلم أتبعه خطوة تابع
إن الغني لهو القناعة لا الذي ... يشتف قطرة ماء وجه القانع
وكان ابن زيدون وثيق الصلة بأبي الوليد بن الحزم ابن الجمهور، وكان هذا يحبه ويصطفيه، ويدافع عنه بما أوتى من جهد وقوة، ولكن تصرفات ابن زيدون، وفلتات لسانه كانت تذهب بكل ما يبذله أبو الوليد وتحطم كل ما يشيده. فبعد عودة ابن زيدون من مهمته استمر ابن عبدوس يرصد حركاته ويحصي أعماله، وكانت عيونه لا تغفل عن ابن زيدون لحظة؛ وكلما وقع شيء في يد ابن عبدوس بعث به إلى ابن جمهور ومن ذلك ما كتب له:
(. . . أما بعد فقد أبلغني الرجل الذي وكلت إليه مرافقة ابن زيدون ومراقبته عن بعد منذ حضر من بطليوس، ينتقل من دار إلى دار والحيرة لا تفارقه، ويزور أناساً لم يكن يزورهم من قبل، وقد تردد في الأسبوع المنصرم على دار راجع الصنهاجي وكان يودعه عند الباب كل مرة، وسمعته في إحدى المرات يقول له (سيكون الأمر هينا والجو ملائماً)، وزاده منذ يومين ثابت الغافق، وخرج من عندهم ومتجهم الوجه يبدو عليه القلق والتفكير وكان بالأمس مع ابن زكوان عند ولادة وخرجا قبيل الفجر، وكانا يتهامسان في الطريق ويبدو عليهما الجد والاهتمام).
وردت هذه الرسالة بينما كان ابن جمهور وابنه أبو الوليد في مجلس لهما فلما قرأها ابن جمهور دفع بها إلى ابنه وقال أسمعني ما فيها. فلما انتهى أبو الوليد من قراءتها سكت ولم يتكلم فصاح أبوه قائلاً: