وقيمة هذا الديوان الصوفية أكبر من قيمته الفنية، وهذه النزعة الروحية كثيراً ما كانت سمة من السمات التي طبعت الحياة العقلية لكثير من المفكرين والمنتجين في هذه البلاد في كثير من العصور.
ويخيل إلي أن الزمزمي كان مشدوداً برباط وثيق إلى عالم ما وراء الحياة في رحلاته الكثيرة المتعددة لا يكاد يهبط بلداً من البلاد حتى يكون من اول ما يقوم به زيارة هذا الضريح أو ذاك لالتماس البركة من هذا الولي أو ذاك، ونظم ذلك كله شعراً صوفياً يرتاح له ضميره.
وكان لا تلم به كارثة من الكوارث أو تحق به أزمة من الأزمات حتى يشد رحاله إلى المسجد النبوي ينشد الفرجة من مقام النبوة العظيم.
وربما كانت فرقته للحجاز على كره منه، فهو يصرح بذلك في شعره، ويشكو إلى الله حالته الكئيبة الحزينة، وبعده عن عياله واوطانه وعن المشاعر المقدسة ومعاهد الطهر والإيمان، ويستعرض أمام عينيه ايامه التي سلفت. فما أكثر ما ظل عاكفاً بالمسجد الحرام يصلي حيناً ويدرس ويقرأ القرآن حيناً، وما أكثر ما وقف بعرفات، فلقد حج أكثر من خمسين حجة فهل يتاح له الوقوف بها مرة أخرى، وهل تناخ له بمنى، المنى وهل يبصر نفسه بين اهله وذويه، ورهطه وصحبه، وقومه وإخوانه؟ إنه يسجل كل ذلك في شعره إذ يقول:
إلى الله أشكو من تباريح أحزاني ... وبي وبعدي عن عيالي وأوطاني
بحكم زمان ظالم جار واعتدى ... على وعن قصدي عداني وعاداتي
ترى هل ترى أم القرى عين نازح ... بجثمانه والقلب منه لها واني
أعد لي حديثاً عن مشاعرها وعن ... معاهدها دامت معاهد إيمان
وعن حرم الله الأمين ومسجد ... حرام وبيت ضم أشرف أركان
فيا طالما في ظله عاكفاً ... لتدريس علم أو صلاة وقرآن
ومن عرفات لست أنكر موقفاً ... تعرفته من قبل إبان عرفان
وقفت به نيفاً وخمسين حجة ... فكيف فمي يجري له ذكر نسيان
ألا ليت شعري بعد فرقة جمعنا ... بليلة جمع عائد عيشنا الهاني
وهل بمنى يوما تتاح مني ... إليها والشوق أضر من نيراني