المبحوثة إلا نورا ضئيلا، ولا يأتي إلا بفائدة جزئية، لعجزه عن إيضاح التناسق المعنوي، وإزالة التضارب والتنافر، ليس بين المفاهيم العربية وحسب، بل بين مدا ليلها ومدا ليل أخواتها السامية البواقي.
ثم لتأصيل الألفاظ عن طريق الاشتقاق، وهناك قاعدة لازمة الاتباع، وهي الانتقال من الفحاوي المادية المحسوسة إلى المداولات المجردة والمجازية، ومن حياة البداوة إلى حياة الحضارة، ومن مزاولة الرعاية والزراعة إلى معالجة الصناعات والفنون والعلوم. ومن هذا القبيل نجد العربية آلة من أنفع الآلات تبز سائر أخواتها السامية، إن لم تقل اللغات البشرية.
إن العائشين اليوم في عصر التمدن والرقي على اختلاف ضروبه، ليكرهون البادية ماقتين حياتها البدائية، وهذا معقول، لان الرقي غير متوقف على الرجوع إلى الوراء، ولا على النزول إلى اسفل، بل على التقدم دائماً لبلوغ الكمال قدر المستطاع. ويود بعض معاصرينا إجلاء معاجمنا من كل الكلم التي يشتم منها رائحة لا حياة البدوية، حتى لا يبقى فيها سوى الألفاظ والتعابير الحضرية، لا بل العصرية الحديثة وما يلزم أن نستحدثه منها اندفاعاً مع تيار التقدم المتواصل.
هذا من حيث الروح والذوق العصري، أما نحن، معشر المتخصصين للمعجمية، وما تشمله من اشتقاق وتأصيل وثنائية وألسنية، فلا تمالك من الإشادة بفضل أولئك اللغويين القدماء الذين قاموا بالرحلات العلمية، قاضين السنين الطويلة بين ظهراني أهل الوبر، فجمعوا لنا كل تلك المفردات البدوية الخالية منها الألسن السامية الأخر التي لم تجمع ولم تدون مفرداتها إلا ألبان بلوغ أربابها طور الحضارة. ففقد منها اغلب الأصول والرساس الأولية بمعانيها المادية المحسوسة. وفي هذا يظهر الفضل العميم، فضل اللغة العربية على شقيقاتها، والدليل الساطع على قدم ألفاظها، مع إنها دونت بالكتابة آخر جمعها. مما تتحقق معه هذه الحقيقة الحليلة، وهي إن العربية هي المفتاح النفيس لفك مغاليق كثير من الغاز المعجمية السامية، وذلك بالرجوع إلى الرس الثنائي الصائن عادة اقدم المدلولات؛ أي الفحاوي البدائية الفطرية المحسوسة الملموسة.