يقول كارليل:(إن العقيدة - مهما صحت وقويت - شيء عديم القيمة إذا لم تصبح جزءا من السلوك والخلق، بل هي في الواقع لا وجود لها قبل ذلك، لأن الآراء والنظريات لا تزال بطبيعتها شيئا عديم النهاية، عديم الصورة، كالدوامة بين الدوامات - حتى يتهيأ لها من اليقين المؤسس على الخبرة الحسية محور (تدور حوله عندئذ بصير إلى نظام معين. ولقد صدق من قال: لا يزول الشك مهما كان إلا بالعمل)
والعقيدة في نظرنا وفي الواقع لا يمكن أن تكون قائمة ولا صحيحة ولا قوية حتى تصير جزءا من السلوك والخلق، وهي بغير ذلك قيد مثبط لا باعث محرك هي قيد يلزم الإنسان بالسكون إلى حالة واحدة والجمود عليها والجبن عن التحول عنها وانظر ولو مجردا إلى غيرها، والقناعة بالبقاء فيها والرضا بها، والنفور من بذل أي جهد نظري أو عمل حتى في مناقشتها وتجربتها، وتحرمه كل رغبة في الحركة والعمل. أو هي - أحمالا - تحجر الإنسان حينئذ، وتقتل فيه بواعث الجهاد بالفكر أو بالعمل، وتبدو حينئذ تعصبا أو بلادة أو موتا والمعتقد في هذه الحال يحرص أشد الحرص على شكليات العقيدة، ويهمل روحها أشد الإهمال؛ لأن العقيدة في سريرته ميتة محنطة كالمومياء. فهو يغالط نفسه في حرصه على الشكليات عن وعي وغير وعي كي يخدر نفسه ويعميها التناقض الفاضح بين مقتضيات روح العقيدة وسلوكه المناقض لها، وفي ذلك وضع للثقة الزائفة موضع الثقة الصحيحة، أو العزاء الزائف موضع العزاء الصحيح
إن الحرص على شكليات العقيدة بعد موت روحها في السريرة الإنسانية ليؤدي وظيفتين أو يسد حاجتين من حاجات السريرة لا مناص منهما:
إحداهما: أنه يمنح السريرة الثقة بشيء ويملؤها به ولو كان وهما باطلا
والسريرة كالمعدة؛ فالمعدة بطبيعتها محتاجة إلى الطعام ولا غنى لها عنه، وهي إذا لم تجد الطعام الصالح لم يكن لها مفر من ازدراد طعام أي طعام، ولو كان متعفنا أو ساما يؤذيها أو يفسدها أو يقتلها، أو يؤذي الجسد كله أو يفسده أو يقتله، فالمعول عليه أن تمتلئ ولا تبقى فارغة ولو كانت تلفظ ما يدخلها فور ازدراده، وهي لا تكاد تلفظه حتى تطلب ما يملؤها ثانية ولو كان مما لفظته، لأن آلام الفراغ دونها آلام الموت
وكذلك السريرة الإنسانية: لا بد لها من الإيمان بشيء لأنها في طبيعتها محتاجة إلى