لقد كان الخيال الذي حلق به أبن الجهم ضعيف المنة، قصير الجناح، فالسير الحبيس ليس كالسيف أو الليث في شيء، وإلا فكيف يغمد السيف لدى الكريهة النائبة، وما خلق إلا ليمزق الأشلاء، ويسفح الدماء؟ وكيف يغضي الليث عما ينوشه من الثعالب والذئاب، وهي التي ترهب سلطانه الجبار؟ هذا ما فطن إليه عاصم، فاندفع ينقض أبيات صاحبه، ومعه الحق في دعواه ولكن لم يستطرد الشاعر فينقض التشبه بالبدر والنار، كما نقض التشبه بالسيف والليث؟ وذلك حتم أكيد عليه، لأن الشاعر الناقض فير الشاعر المعارض، فإذا قنعنا من المعارض بالتصوير الكلي، فلن نري من الناقض بغير الاستقصاء والثبات، ومثل من يعارض في شعر نقوله كمن يبني قصرا جوار قصرك، فهو لا يتقيد بأسلوبك ونظامك في البناء، وما عليه إلا أن يحدث بناء تشرأب أليه الأعناق، أما الشاعر الناقض فلا يبني بيتا جوار بيت، ولكنه يهجم في صرح مشيد، فعليه ألا يترك بعض المقاصر شاخصة للأبصار!
وقد صور عاصم ظلام السجن أو تشابه ليله بنهاره، وتأفف من غياهبه السرمدية، وشقائه المؤكد، وهو كلام لن تجد نظيره عند صاحبه، لأن الأول ثائر ناقم يذيع الفضائح والهنات، والثاني قانع راض يلتمس المحامد في كل مجال
ثم ماذا بعد ذاك؟
لقد لجأ ابن الجهم إلى الأسلوب الخطابي في تدليله، ولا عليه، فهو شاعر يستحث العاطفة ويخاطب الشعور، وقد وجد السجين يلزم حبسه كما يلزم الكريم بيته، ويزوره الناس في غياهبه دون أن يزور أحدا في رحابه، شأن العظماء المترفعين، فلم لا تحمد السجون على هذا التكريم العجيب!! ذلك رأي يعلنه ابن الجهم إذ يقول:
والحبس ما لم تغشه لدنية ... شنعاء، نعم المنزل المتردد
بيت يجدد للكريم كرامة ... ويزار فيه ولا يزور، ويحمد
وهذا كلام مردود لا يقره عاصم، وقد شهد في محبسه كل مذلة وهوان، ومتى استراح السجين لزواره، وهم ما بين شامت يبدي التوجع، ويضمر السرور، وصديق يذري الدموع، ويرسل الزفرات، وهذا كذاك، يوقد الشجى في الضلوع، بزورته! وقد عرف