عاصم ذلك فاندفع يقول:
ما الحبس إلا بيت كل مهانة ... ومذلة ومكاره لا تنفد
إن زارني فيه العدو فشامت ... يبدي التوجع تارة ويفند
أو زارني فيه المحب فموجع ... يذري الدموع بزفرة تتردد
وواضح أن ابن الجهم يعترف بهذه الأبيات في أطواء نفسه، ولكنه يلفق الأدلة الوهمية كبتا للشامتين، ونحن نرفع شاعريته حين نعلم أنه يتصيد المحامد للقفر الموحش، وذلك مسلك وعر تتعثر فيه القرائح الجياد، أما صاحبه فيعف ما يرى في القفر الجديب من قسوة وجفاف، فهو يسير مع التيار، ولا يقف في وجهه متحديا العقبات والصعاب!
وقد تعجب لعلي حين ينسى موقفه الدفاعي، وتطغي عاطفته على عقله، فيرجو الفرج القريب، ويأمل الرخاء بعد الشدة:
فلكل حال معقب ولربما ... أجلى لك المكروه عما تحمد
قد تعجب لذلك منه وتأباه، إذ أن المستريح في محبسه لا يحب أن يفوه بما يشير إلى الضجر والسخط، ولكن الحق ظافر غالب، وقد عجز الشاعر أن يتنكر لعواطفه إلى آخر الشوط، فعمد إلى إرضائها والترويح عنها، وهو بذلك يلتقي مع صاحبه عاصم في مأساة واحدة، وخطب مشترك، فلا مجال للمناقضة بعد ذلك، وقد ذهبا معا يتوسلان ويعتذران، عسى أن يصيبهما حظ من الصفح والغفران
ولقد كان ابن الجهم بليغا في اعتذاره، متفوقا على صاحبه، فهو يدعو إلى النصفة والسداد، ويود لو اجتمع في مجلس واحد مع خصومه أمام الخليفة ليدحض الحق الباطل، إذ ليس من العدالة أن يتحكم الشاهد في الغائب فيوفر عليه الصدور، وينهشه ما استطاع، اسمعه يقول:
أبلغ أمير المؤمنين ودونه ... خوف العدا ومهامه لا تنفد
إن الذين رموا إليك بباطل ... أعداء نعمتك التي لا تجحد
شهدوا، وغبنا عنهمو فتحكموا ... فينا، وليس كغائب من يشهد
لو يجمع الخصماء عندك مجلس ... نوما، لبان لك الطريق الأرشد
والشمس لولا أنها محجوبة ... عن ناظريك لما أضاء الفرقد
والبيت الأخير ممتاز رائع، وهو فوق إقناعه السديد يدل على ما يعتقده الشاعر في نفسه