أنسيتم في سنة تسع وتسعمائة هجرية، ليلة أن بات الغوري بالقصر، وأحرقت إحراقة النفط بالرملة. . . وفي الصباح. . جلس السلطان في شرف مطل على الرملة، وتقدم إليه الرماحة في ثيابهم الحريرية الحمراء، ومعهم رماحهم مشروعة في أيمانهم. . . لقد قاموا بألعابهم البهلوانية الجميلة الخلابة، ثم طيف بالكسوة الشريفة والمحمل مرة في بكرة النهار، ومرة بعد الظهر. واجتمع الناس للتفرج به، من كل حدب وصوب، وافدين من القاهرة والخانكاة وبلبيس ومن نواحي شتى. حينذاك كنتم ترون الفرح يغشى بأمواجه المتدافقة جموع الناس. تلك الجموع المتراصة الضاحكة. وقد ألقى كل امرئ منهم همه جانبا، وأراح كاهله من عبء أتراحه، ونسى كل أثقال الحياة إلا هذه الفرصة الماثلة. . والناس ما بين حدث يافع، وغلامة ناهد مخدرة، ونصف عوان مختمرة، وعجوز فانية مودعة. وبين شاب شارخ لدن، وشيخ هم متداعى الأوصال، وبين سيد قوم، وشجاع همام صنديد، وجبان نكس رعديد. . .
لقد سرت حينذاك بين الجميع نشوة واحدة، وانتظمتهم سكرة فرح مشتركة، حتى أخذوا يرقصون وينشدون قائلين:
بيع اللحاف والطراحه ... حتى أرى دى الرماحه
بيع لي لحافي ذي المخمل ... حتى أرى شكل المحمل
الشاعر: لله درك يا ولي الدين! لقد أذكيت في نفسي عوامل الشعر، وأوقدت الشاعرية، وأشعلت في خاطري جذوة القريض بهذه الأوصاف والمواقف العاطفية. . . وهكذا نحن معشر الشعراء. .! نراع بكل مظهر من مظاهر العاطفية، فردية كانت أم جماعية. . ويطوح بنا الخيال حينذاك في ميادينه الواهمة. وسناته الحلة. . فنعيش لحظات كالمحمومين. . .
أما أنت وأمثالك يا معشر الفقهاء. .! فلكم من هذه المظاهر ما فيها من طعام وشراب، مما لذ وطاب. . . ولله در الفاطميين الذين ابتدعوا لنا ولأسلافنا أمثال هذه المواسم، ليشغلوا أذهاننا وبطوننا عن سياستهم الخرقاء، وعن تقصيها ونقدها. . . وليبهروا أنظار العامة منا ببهارج لا طائل تحتها، ولا غنية فيها. . ولله كذلك السلطان الملك الظاهر بيبرس، أول من أمر بخروج المحمل. .!