للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولا تضيع من ورائه المعالم. . وكل رمزية في واقع الأمر نقاب يلقى على الوجه الجميل، ولكن هناك وجها يحول النقاب الكثيف بين جماله وبين جمال العيون، ووجها آخر يكسبه النقاب الكثيف بين جماله وبين جمال العيون، ووجها آخر يكسبه النقاب الشفيف فوق جماله ألوانا من الفتون. . . وهكذا تجد الفارق الدقيق بين الرمزية اللفظية والرمزية النفسية!

إن الرمزية في جوهرها ما هي إلا وسيلة من وسائل التعبير تستحيل معها المدركات الحسية إلى مدركات نفسية. . . إنها الجسر الذي تعبره الألفاظ والأخيلة والمعاني لتلتقي في بقعة فكرية بعينها تنطمس فيها الماديات لتحل محل المعنويات. وهي في الشعر بعد ذلك ألوان. رمزية جزئية تصب في قالب اللفظ وحده ولا تتعداه، ورمزية مماثلة تقع من الصورة الصوفية موقع الإطار، ورمزية كلية تشمل الهيكل العام أو الموضع العام للقصيدة. . أما رمزية اللفظ فهي رمزية الشطحات التعبيرية، وأما رمزية الصورة فهي رمزية الشطحات التخيلية، وكلتاهما تمثل ذلك النقاب الكثيف الذي يلقى ظلاله المبهمة الداكنة على وجه الفن، ويحيل الومضة النفسية ظلاما تتخبط فيه الأذواق وتضطرب المقاييس في تحديد مداه. . هناك لفظ يدفعك إلى أن تبذل في استجلاء مراميه كثراً من العناء لأنه يمنح من نبع شفوي معقد يتدفق من وجود داخلي، وهناك صورة تجهد فكرك إذا حاولت أن توفق بين خطوطها المتنافرة، لأنها مرسومة بريشة الحركة اللا واعية، ألا لأنها من صنع المخيلة المحلقة في آفاق ذهنية لا تنعكس منها غير مظاهر الضباب، وهكذا نجد الرمزية المصنوعة حين تردها إلى شطحات التعبير والتحليل في نطاق الصور والألفاظ. ولا كذلك الرمزية المطبوعة لأنها حركة استبطان نفسي قبل كل شيء، استبطان تبدأ مرحلته الأولى بجمع المادة الأولية لكل ظاهرة حسية في مجالها المادي، وتبدأ مرحلته الثانية بفحص هذه المادة الأولية فحصا يرجعها إلى مصادرها من النفس والحياة، وتبدأ مرحلته الثالثة بعملية المقابلة والموازنة بين الطابع الحسي للظاهرة المادية وبين الطابع النفسي للفكرة الفنية. وفي هذه المرحلة الأخيرة يتم التوافق الدقيق الكامل بين عالمي الماديات والمعنويات!.

هذه الرمزية المطبوعة التي نعنيها بهذه الكلمات، هي الرمزية التي يرفل فيها اللفظ في أثوابه النفسية البسيطة التي لا تختلف كل ما يماثلها في الشعر من أثواب، والتي تخطر فيها الصورة الوصفية في مواكبها البيانية وهي مغمورة بأضواء الحركة الواعية التي تعمل

<<  <  ج:
ص:  >  >>