للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الآن في أحد سواه

يرى الأستاذ في مقاله (حول مشكلة الفن والقيود) أن العقل الواعي هو الذي يقول للشاعر أن الجو الشعري لهذه القصيدة يصلح له هذا الوزن دون ذاك، ونتلاءم معه هذه الموسيقى الداخلية دون تلك. . .

وهذا بالتجربة غير صحيح، لأن العقل الباطن هو الذي يدرك أولا الصلة بين الجو الشعري للقصيدة، والوزن الموسيقي الذي يصلح له، والموسيقى الداخلية التي تلائمه. . . ثم ينبعث منه بعد هذا الإدراك - ذلك الوزن الصالح، وتنبع منه هذه الموسيقى الملائمة. أما العقل الواعي فإنه (يلمس) بعد ذلك هذه الصلة

ومطلع القصيدة الذي يحدد وزنها الشعري، هو عند الشعراء الملهمين هدية من العقل الباطن لا دخل للعقل الظاهر فيها، ولا صلة له بها. . . أما النظامون، فإن القصيدة عندهم من مطلعها إلى مقطعها (وليدة) الذهن الواعي. . . الواعي للتقليد والمحاكاة والسرقات!

ويقول الأستاذ في مقاله (العبقرية والحرمان): (إن العبقريات معادن. . بعضها يتوهج في ظلال النعيم، وبعضها يتأجج في رحاب الفاقة والحرمان)

والذي أراه أن العبقريات لا تتوهج ولا تتأجج إلا في سعير الحرمان الروحي، أما الترف والفاقة فإنهما مظهران خارجيان لا يؤثران في العبقريات إلا بمقدار ما يكون لهما من صلة بالحرمان الروحي. . وهذا الحرمان ألوان، فهناك الحرمان من احترام الناس، وهناك الحرمان من التمتع بالجمال، وهناك الحرمان من الحب - والحب أنواع -، إلى غير ذلك من ألوان هذا الحرمان. ولا يمكن لعبقرية من العبقريات أن تتوهج في ظلال ترف لا يكون معه حرمان روحي، أو تتأجج في رحاب فاقة لا تولد مثل هذا الحرمان

وعلى ضوء ذلك نستطيع أن ندرس العبقريات جميعها، فنجدها كلها من هذه الناحية معدنا واحداً، وليست معادن مختلفة

وقد كتب الأستاذ مقالا عن أبي العلاء كما يراه، بلغ فيه القمة حين أثبت أن القلق هو الظاهرة الكبرى في شخصية أبي العلاء، وليس التشاؤم كما ذهب إلى ذلك غيره من الباحثين، وحين أثبت أن سر هذا القلق هو ما كان يشكوه أبو العلاء من فراغ النفس، وفراغ القلب، وفراغ الجسد، ثم رأى أن حرمان أبي العلاء من المرأة هو مصدر الحرمان

<<  <  ج:
ص:  >  >>