للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

النقد لهم، قاسياً عليهم، يتمتع بإبراز خطاياهم).

وقد ذكر علماء النفس: أن هذا باب جديد، فتحه فريق من أصحاب (التحليل النفسي) وخطوا فيه خطوات موفقة، واستطاعوا به تعليل كثير من مظاهر السلوك الزائغ والاعتلال النفسي.

وفات هؤلاء، أن هذا الباب الجديد، قد طرقه الفيلسوف ابن خلدون واستقصى فيه منذ ستة قرون، وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته المشهورة أن (الشدة على المتعلمين مضرة بهم) وعلل هذا بأن من كانت نشأته في أحضان القهر، وتربيته في مهاد القسوة والعنف لا سيما إذا كان صغيراً، سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها؛ وذهب بنشاطها ودعا إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعمله المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل السافلين).

ولم يكتف ابن خلدون ببيان الأثر الذي تحدثه سياسة الشدة بالأفراد، بل قال إن أثرها في الأمم أشد خطراً وأبعد أثراً، فالأمة التي تقع فريسة للاستعمار، صديقة للشدة والعنف، هي أمة تنشأ على الذل والخوف، وتربى في أحضان الفساد الخلقي فيصير ذلك خلقاً وطبيعة لها. انظر إلى بني إسرائيل، وقد لبثوا تحت حكم الفراعنة أحقاباً يسومونهم سوء العذاب، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، فلما أذن الله لهم، وأخرجهم موسى بعصاه، من أرض الفراعنة إلى صحراء سيناء، أوحى الله إلى موسى بأن يستعد هو وقومه لدخول الأرض المقدسة ومقاتلة من فيها من العمالقة. ولكن الخوف كان قد استبد بهم، وذهب الرعب بقلوبهم كل مذهب وقد تعود زعماؤهم أن يكونوا عبيداً المستعمرين (قالوا إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين، قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين). وبين ابن خلدون بعد ذلك أن الحكمة في وقوعهم في التيه أربعين سنة، هو انقراض هذا الجيل الذي نشأ في أحضان

<<  <  ج:
ص:  >  >>