للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الحاشية والأنصار، وأدت مناصرته لداود باشا، ومؤازرته له أن حبس في سجن (نقيب أشراف بغداد). وبعد أن أفرج علي رضا عنه ابتسمت الدنيا له وشرب القليل من نعيمها، ولكن لم يطل له ذلك إذ سرعان ما عاد عليه النحس بعد السعود وذلك في عهد ولاية نجيب باشا الذي عزله من منصبه العظيم (الفتوى) وأساء. معاملته، فساءت حاله واسود الزمان في وجهه فصبر وثابر حتى قصد عاصمة السلطنة العثمانية (استنبول) فنال من دهره ما أراده. عاش الألوسي أكثر من نصف قرن، وفي عهد اختلت فيه القيم الاجتماعية والمقاييس الأدبية كما أن الحرية الشخصية والكرامة والعقيدة كانت حديث خرافة ليس إلا! عاش في عصر مظلم ليس فيه للقوانين والأنظمة سلطان ولا سيادة، هذا مع العلم - كما أشرنا - أنه عاصر ولاة مصلحين محبين للصالح العام، ولكن ماذا يفيد الوالي المصلح إذا كان الجهل ضارباً يجرانه؛ والتعصب والتخريب هو السائد وهو المتحكم؟ كما أن الرغائب الفردية هي الكل في الكل، والبلد كله في هرج ومرج، إذن نقولها غير مترددين: إن الألوسي الكبير عاش في عصر الظلم والظلام. . وكل عصور الظلم والظلام حيث لا عدة للشخص في الحياة إلا القوة والبطش أو استعمال الذكاء والأساليب الملتوية، في كل عصر من هذه العصور السود، تسود البلاد الفتن والفوضى، ويخيم الجهل والخرافات كما تنعدم المرافق الزراعية والصناعية والثقافية، وهذه كلها هي العلامة الفارقة لبغداد بعد سقوط خلافة بني العباس وبعد هجمات التتر والإيرانيين والتركمان والأتراك. . وعصور الظلم والظلام التي ذكرنا صفتها البارزة تمتاز مع ذلك بظهور النبوغ الفردي، والكفاءة الشخصية، إذ يظهر أشخاص يجدون في هذه المفارقات الاجتماعية، وفي تقلبات الظروف والأحوال مجالاً لعبقريتهم النفاذة وشخصيتهم اللامعة، كما أن التجارب المتعددة والمفاجئات المباغتة توجه أعصابهم للتكيف الاجتماعي وأهتبال الفرص لنيل مآربهم وغاياتهم. والألوسي الكبير، بلا ريب، من هذه الشخصيات، لأنه زج نفسه في زحام المعارك وكان في عهود الولاة الأربعة ممثلاً للرأي العام في قصور الولاة والحكام على رغم الحوادث التي لم تنل منه بل زادته صلابة وثباتاً! لأنه - وهو أبن بغداد الصميم - والمتصل اتصالاً مباشراً بالجماهير التي يعظها ويخطب فيها ويفتي في شؤونها الأخروية والدنيوية، لأنه وجد ألا سبيل لمقارعة الحكام الظلام، والولاة الطائشين، ومن يحيط بهم ويؤازرهم من

<<  <  ج:
ص:  >  >>