ويحس جوها، ويكتشف دقائقها، ويلم بحقائقها. . فأنت تشم من شعره في كل قصيدة وكل بيت، رائحة (الصدق) تفعم أحاسيسك، وتملأ مشاعرك فتهزك من أعماقك هزاً عنيفاً، وتدفعك قسراً إلى متابعته والاندماج في جو قصيدته بعد أن يلهب نفسك، ويشعل وجدانك - استمع إليه في قصيدته على ضفاف الجحيم، وهو يخاطب القاهرة وأضوائها القاسية:
إني هنا فعبدي وثوري ... ملء عنان اللهو والسرور
ومزقي بضحك المخمور. . ... غلالة ينسجها تفكيري
ليستر العريان من شعوري ... ويحجب اللافح من سميري
الجائح المدمر الضرير ... يود لو يعصف بالقصور
وساكنيها عابدي الفجور ... النائمين في حمى الحرير
الغافلين عن أسى الفقير ... ولوعة الشرد الدحور
الوالغين في دم المهدور ... من عصب الكادح والأجير
إني هنا يا جنة الحقير ... آكل جوعي وأضم نيري
قف طويلا أمام تلك التعبيرات الصادقة، المنطلقة من إحساس صادق، لتتفيأ الظلال التي تتركها على صفحات الشعور الملفوح بحرارتها وقوتها، قف أمام (العريان من شعوري) ثم أمام (عابدي الفجور). . (التأمين في حمى الحرير). . ثم قف بربك أمام الشطر الثاني من البيت الثامن (آكل جوعي وأضم نيري). . ثم قل هل هناك أصدق في الإحساس والتعبير وفي دقة الأداء وعمقه، من تلك التعبيرات؟
ثم استمع بعد ذلك إلى هذه الومضات المتدفقة من أعماق وجدانه المشتعل:
هذا أنا في العالم الكبير ... فوق ربي المقطم المهجور
متخذاً من أرضه سريري ... من الحصى والطين والصخور
وتحت سقف الأفق المطير ... والقاصف المزمجر المقرور
أنام نوم العاجز الموتور ... على عواء الذئب والهرير
وقهقهات الرعد في الديجور ... تسخر من عجزي ومن تقصيري
هنا تصوير صادق، وصادق جداً، لا يقدر عليه إلا شاعر أحس أثر التجربة العميق في نفسه، بعد أن جمع إحساسه، وحشد قدرته الفنية، ليلتقط دقائق المنظر حتى يخرج صادقاً