من هذه الحضارات فضل، ولكل منها شيء وأشياء تميزها. . وهي كلها مجهودات للإنسان حميدة في سبيل غاية لا يدريها. والإنسان وهذه المجهودات غير فانية، أو الكثير منها غير الفاني. وهي مجهودات خالدة بحسبانها أشكالا وأنماطاً وأساليب للعيش وقوالب للفكر تتوارث. كما أن الإنسان خالد بحسبانه نطفا تتوارث، ومظاهر الحضارات ومن إظهارها يفنيان جميعا كما قال المتنبي في شعره المعروف
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع
إلا الفكر. . إلا الفكر الذي أنتجها، أو الفكر الذي أنتجته، فهذان يخلدان؛ لأن الفكرة لا تموت. ولقد بقي من الحضارات الماضيات أفكار ترقد في أوراق، لا تزال نجتليها ونسرح البصر البصيرة فيها
والمدينة الحاضرة إنما هي جماع تلك المدنيات جميعا. والمدنية الحاضرة تجد في تلك المدنيات الغابرات فكرة ترضاها فتنتفع منها، أو تجد فكرة لا ترضاها فتتجنب أذاها؛ فهي فكرة تهدي على كل حال حتى برفضها، كالطريق الذي لا تسلكه يدلك على الطريق الذي تسلكه
والمدنية الحاضرة تميزت بصفات وتألفت من عناصر سوف أجتهد في إخراج بعضها وإبرازه، صفة صفة، أو عنصر عنصرا، وأدلي بموقف الفكر العربي، كما أراه منها
الحضارة والعلم:
إن المدنية الحاضرة ميزتها الكبرى العلم. العلم الطبيعي. العلم التجريبي
والعلم ليس كالناس يولد في ساعة. أنه يولد على القرون فلا تكاد تعرف له ميلادا. وأنا إن ذكرت الميلاد، حلا لي دائما أن أتخذ من حياة (لافوازيه) للعلم ميلادا. وهو ولد عام ١٧٤٣ ومات عام ١٧٩٤، فحياته استغرقت النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ولافوازيه أبو الكيمياء الحديثة لأنه كشف الهواء وكشف عناصره. وما كانت مدينة مؤسسة على العلم الطبيعي لتكون والناس في جهالة من الهواء الذي منه يحيون، وفيه تحدث الأحداث للأشياء الأخرى والناس. أنه لولا أن تركيب الهواء اتضح، ما أمكن أن يكون علم ولا مدنية علمية. وإذن فإذا قلنا إن العلم، والمدنية العلمية، لم تقف على أرجلها إلا من نحو قرنين نعد