للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وليست هذه عقلية الجماهير وحدها، ولكنها كثيرا ما تكون عقلية المفكرين والباحثين. فلقد خطر للمفكرين في أمريكا أنه لا يصح أن تكون دولتهم أغنى دول العالم، وشعبهم أكثر شعوب الأرض حضارة صناعية، وحضارة علمية، ثم لا يكون لهم من الثروة الفنية مثل ما لبعض الشعوب الفقيرة كالطليان والألمان.

ولديهم المال - والمال يصنع المعجزات - وإن هي إلا سنوات حتى كان لهم من متاحف الرسم والنحت أفخمها وأضخمها. وجمعت لها القطع الفنية من كل فج، وعمرت بالنادر والثمين من هذه القطع، التي لم يبخلوا على شرائها بالمال. وكلها قطع أجنبية إلا القليل؛ لأن القطع الأمريكية بدائية وساذجة إلى حد مضحك بجوار تلك الذخائر العالمية الرائعة.

وكذلك كان لهم من الفرق الموسيقية العازفة وفرق (الباليه) الراقصة، أكثرها مهارة وإتقانا، ومن مديري هذه الفرق أعظمهم عبقرية وإبداعا. . وكلهم من الأجانب إلا القليل.

ثم خرجت الإحصاءات الدقيقة تعلن عما تملك أمريكا من الثروات الفنية الضخمة، المشتراة بالمال، ولكن بقى أمر واحد بسيط: أن يكون للنفس الأمريكية نصيب في هذه الثروات؟ بل أن يكون لها مجرد التذوق الفني لهذا التراث الإنساني الثمين!

وخطر لي أن أمتحن هذه الأرقام في متاحف الفن، كما أمتحنها في دور الأوبرا وما إليها.

ذهبت للمرة العاشرة إلى متحف الفن في سان فرنسكو وجعلت مادة امتحاني إحدى قاعات الصور من الفن الفرنسي، ووزعت اهتمامي على ما فيها من الصور، ولكنني ركزته على صورة واحدة بارعة اسمها: (ثعلب في بيت دجاج) ولا تملك الألفاظ أن تنقل إلى القارئ روعة هذه الصورة العبقرية التي صور فيها الرسام جملة مشاعر عميقة مركبة في لوحة ليس فيها وجه إنسان يسهل على الرسام أن يصور هذه المشاعر فيه. . ثعلب في بيت الدجاج، والجو داكن خانق وقد هجم الثعلب أول ما هجم على دجاجة أم مفرخة، بدت مكروبة مجهدة، في مخالب الوحش المكشر؛ وقد فزع صغارها، وتناثر البيض الباقي تحتها؛ على حين تناثرت زميلاتها في فراغ اللوحة، ووقف الديك - رجل البيت - وقفة المغلوب على أمره، الحائر الذي لا يجد مخلصا لزوجه المكروبة وهو حاميها! أما الأخريات فواحدة جازعة مأخوذة، وأخرى قانطة مشمئزة أن يكون في الحياة كل هذه الشناعة، وثالثة حائرة متسائلة: كيف وقع هذا؟ والجو كله والألوان في اللوحة العبقرية

<<  <  ج:
ص:  >  >>