ثم أذن بالعودة إلى القلعة، فمرر ركبتيه بالمقياس أولاً، ثم نظم هذا الركب نظاماً حافلاً لم يرزقه ملك سواه. مشى رءوس النوب، وجمع حاشد من الخاصكية. وعلى مقربة منهم الأمراء المقدمون وغيرهم، وأعيان المباشرين. وقاضي قضاة الحفية عبد البربن الشحنة. ركب هؤلاء جميعاً جياداً مطهمة مسرجة بالحرير مزدانة بالذهب، ومعهم بعض الضيوف من أمراء العثمانيين وغيرهم، وركب أربعة من الأمراء هجناً، وعلى جانبيهم أفيال كبيرة كانت قد أهديت إلى السلطان وعليها البركستوانات - السروج - المخملة الحمراء، وسار الركب تصحبه ألوان من الموسيقى، ناسلاً من شاطئ النيل عند مصر العتيقة إلى الصلببة، حتى بلغ القلعة. . والناس فيما بين هذا وذاك تخب في بحر من الأنس لا ساحل له، وتموج في يم من الفرح لا يعرف مداه، وهي تضج للسلطان بالدعاء. . .
في تلك الأيام ملأت عيني منه، وشاهدته بنفسي، طويل القامة غليظ الجسد ذو كرش كبير. . أبيض اللون مدور الوجه، مشحم العينين، ضخم الصوت مستدير اللحية، هيب أنيق الملبس يحب الطيب ويؤنس جليسه. . . ويقال إنه أهدى إلى أمرائه ومماليكه وأصدقائه أثر وصوله كثير من الهدايا.
التاجر: لقد كدت تصبح من حزب السلطان يا شهاب! لقد أغرتك منه تنقلاته اللاهية وفتنتك أسفاره الماجنة، ما بالك تقص قصته وأنت بها لهج، وعليها حدب، وبحديثها معجب تياه. . .؟ ألا إن صلات الأمراء وهبات العظماء لتعمى الوطني أحياناً عن أن يبصر آلام أمته. . .
الشاعر: إن أسفار سلطاننا إلى أطراف مملكته لتفتيشها أو تفقد أحوالها، وإصلاح مرافقها، سياسة رشيدة، ولعل الغوري أراد أن يبدو في ثوب من العظمة البالغة في سفره إلى الأهرام والفيوم، لأنه أول أسفاره، وذلك أيضاً لكي يبهر عيون الرعية ويكبر في قلوب الأعداء. .
أما أنا فأحب المتعة والأنس، فلا تستكثرهما مرة على رجل مثلى عاش طول حياته كليم القلب، معمور الفؤاد. .
التاجر: لا تنسى يا شهاب الدين أن ذلك المال الذي ينفقه السلطان على ملاذه، ويفرقه على أمرائه وأصدقائه، ويغدق منه على مماليكه، هو عرق الأمة المتصبب وتجمع تبرا وتجمد