كنا مهتمين بمعرفة ما يحدث في المستقبل بناء على خبرتنا وتجاربنا في الماضي. ولكن الأمر الذي يهمنا أكثر، من وجهة النظر المستقبلية؛ هو إثباتنا الحدوث والتغير، وشعورنا بوجودنا؛ بناء على هذا الانتقال المستقبلي، ونظرتنا إلى الوجود هذه النظرة المستقبلية، لأن كل ما نريد أن نصل إليه هو فهمنا لهذه الحياة كما هي، وهذا الوجود على حقيقته، ثم الإفادة من هذا الفهم، ورسم خطة نسير عليها في هذه الحياة.
فنحن حين نبني شعورنا بالوجود على النظرة المستقبلية، وعلى الانتقال المستقبلي الذي يجعلنا نحس بوجودنا (نذكر مثال الرجل الموجود في الشمس الطالعة والعالم الساكن في المقال السابق)؛ وحين ثبت أن وراء الحدوث والتغير قوة سببية حققت الانتقال المستقبلي. أي الانتقال من القوة إلى الفعل ومن الإمكان إلى الواقع؛ إنما نرسم لأنفسنا خطة عملية سليمة، ونهجنا نراه قويما، ومذهبنا مستقبليا في هذه الحياة وهذا الوجود. فنحن نقدس العمل لأنه وسيلتنا في الانتقال المستقبلي، وندعو إلى القوة لأنها سبيلنا إلى جعل الممكن واقعا، ونرى أنه بمقدار سرعة انتقالنا المستقبلي يكون حظنا من الوجود، وشعورنا به، وليست العبرة عندنا بطول الوقت الذي يعمره الإنسان؛ بل بمقدار انتقاله المستقبلي، وتحقيقه لإمكانياته، أي بمقدار ما بذل من مجهود، واستنفذ من قوة، وما استطاع أن يحصل عليه من جراب المستقبل.
وإن الشعور بالوجود، والإحساس بالحياة، ليتفاوت لدى الإنسان بالنسبة إلى الفعل والعمل الذي يؤديه. والقوة التي يبذلها؛ أو يتفاوت بالنسبة إلى ما يناله من الانتقال المستقبلي، والتغير الذي يعانيه، فألف سنة مثلا قد لا تساوي لحظة أو ساعة، ألف سنة خاملة ساكنة ميتة نائمة، لا تساوي ساعة حية نشيطة فعالة، يبذلها الكائن في استنفاذ إمكانيات وجوده.
وارجوا أن تطيل التأمل وتنعم النظر، وتقف طويلا معي عند أهل الكهف الذين أمضوا كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، كانت عندهم بمثابة يوم أو بعض يوم! ولتنعم النظر أيضاً وتطل التأمل في هذه الثلاثمائة عام نفسها التي عاشتها الأجيال المتتالية من الاحياء، ولننظر كيف تغير الوجود، وتبدلت الأشياء بالنسبة أليها؟ وكيف عاش هؤلاء الناس واستنفدوا بما أتوا من عمل وبذلوا من قوة إمكانيات وجودهم.
فوجدونا لا يتوقف خصبه وغناه على طول مدته، كما لا يتوقف فقره وإمحاله على قصره