للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لم يكن حظ بلاد العرب من العلم في ذلك العصر موفورا فقد كانوا حديثي عهد بصناعة الخط، فنشأ محمد كغيره من أبناء البلاد لا يعرف القراء ولا الكتابة وبالتالي لم يتلق دروسا عن أستاذ أو معلم، بل تلتقي علومه من الصحراء وأحوالها ووديانها وهضابها، واستطاع بقلبه أن يتلقى من هذا الكون اللانهائي درساً من أعظم الدروس فائدة وأكثرها عمقاً، دفعة إلى تدقيق النظر في معبودات قومه، فوجدها أحجار لا تنفع ولا تضر ولا تدفع شراً ولا تجلب خيراً

لا ضير على محمد أنه لم يكن يعرف علوم الأرض كلها وما يضطرب فيه العالم. فقد كان في غنى عن ذلك كله بنفسه ونظره الثاقب وقلبه الكبير. إنه لم يقتبس من نور أي إنسان غيره، ولم ينهل من منهل أحد، فلم يكن كغيره من الأنبياء والعظماء الذين سبقوه، والذين استعانوا بغيرهم يتلقون عنهم ويتعلمون منهم، وإنما نشأ وعاش في كبد الصحراء بين الوهاد والجبال والأعاصير والرياح، بعيدا عن كل شيء إلا عن الطبيعة الفياضة وأفكاره الدافقة. والدي يعرف تاريخ محمد منذ نشأته يرى أنه منذ صباه كان دائم التفكير، يتجه ببصره نحو الكون العجيب، فلما بلغ الشباب أحذ يعتزل الناس شهرا كل سنة - وهو شهر رمضان الذي يصومه المسلمون الآن - فينقطع عن الناس مؤتنساً بالوحدة والسكون. متأملا في هذا العالم الواسع الذي لانهاية له، كان يخلو إلى نفسه يناجي ضميره بين الجبال الصماء، متجها بقلبه وعقله لأصوات الكون الغامضة الخفية يستطلعها أسرار الكون، ويستجليها ما غمض عليه. حتى إذا بلغ الأربعين من عمره وأقبل شهر رمضان، خلا إلى نفسه بجبل حراء قرب مكة، وقد استصحب معه هذه المرة زوجته خديجة وأنزلها في مكان قريب من الغار.

وبينما هو يتعبد ذات يوم، نزل عليه الملك الأعظم وأخبره بما كان يحير فكره وجلا له غامض الأسرار، وأرشده إلى ما يبحث عنه، فحرج إلى خديجة يخبرها أن الله تفضل عليه فأنار له الشبهة وجلا الشك، ثم أخبرها أن جميع هذه الأصنام التي يعبدها قومه ليست إلا أخشابا وأحجارا حقيرة لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا، وأن الحقيقة بالعبادة هو الله الذي لا الله إلا هو، وأن سائر الكائنات ليست إلاضلا له ودليلا على عظمته وقدرته، إنه النور الأبدي والسر السرمدي. الله أكبر ولله الحق.

<<  <  ج:
ص:  >  >>