للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أصغيت إليه زوجته في دهشة واستغراب، ولكنها ما لبثت أن أمنت به وصدقته (أي وربي إنه الحق) وقد رأى محمد في إيمانها بكلمته، جميلا يفوق كل جميل، فشكرها على هذا الصنيع وعرف لها هذا الجميل طوال حياتها، فكان يذكرها دائما بالخير والثناء، حتى أن زوجته عائشة التي اشتهرت بالفضائل بين المسلمين طول حياتها، وبما لها عند محمد من مكانه، سألته مرة: (ألست الآن أفضل من خديجة؟ هل كانت إلا أرملة قد ذهب جمالها، وأرى إنك تخصها بالحب أكثر) فرد عليها محمد في شيء من الغضب (لا! والله لست أفضل منها وكيف تكونين آثر منها عندي وهي التي آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء).

لقد عرف محمد لخديجة صنيعها، فليس أروح لنفس المرء وأثلج لصدره من أن يجد له شريكا ينظم إليه في اعتقاده ويقف بجانبه وقت المحنة والشدة، ولقد قال نوفاليس: (ما رأيت شيئا قط أوثق لاعتقادي وآكد ليقيني من أن ينظم إلى إنسان آخر يوافقني رأيي ويعتقد عقيدتي).

جهاد محمد:

خرج محمد إلى قومه يذكر لهم رسالته ويدعوهم إلى عبادة الله ونبذ عبادة الأصنام، فكان يصادف جمودا من قومه وسخرية لاذعة، كفيلة بأن ترد أي إنسان عن أعز شيء عنده وأن تحطم أقوى الأعصاب صلابة وقوة، فقد قضى أعواما ثلاثة في جهاد متواصل فلم يؤمن بدعوته إلا ثلاثة عشر رجلا، فهل هذا يعد تشجيعا؟ إن كان يعتبر هذا تشجيعا، فبئس هذا التشجيع، ولكنه المنتظر في كل دعوة كدعوة محمد، في قوم لهم عقائد وعبادات يعتزون بها ويتمسكون.

وبعد هذه الأعوام الثلاثة جمع أربعين رجلا من ذوي قرابته، وقام فيهم خطيبا، ذكر لهم دعوته، وما أوحى الله به إليه وأنه يريد أن ينشرها بين الناس وفي أنحاء الكون، فمن منهم على استعداد لأن يمد له يده ويأخذ بناصره وهم أهله وعشيرته. فدهش القوم وتملكهم العجب وسادهم صمت رهيب، وبينما هم في صمتهم، هب من بينهم شاب في السادسة عشرة من عمره وقد غاظه سكوتهم، فصاح بصوت كأنه الرعد، إنه ذاك النصير والظهير،

<<  <  ج:
ص:  >  >>