هذه الصعاب، فعزم ابن الصحراء على أن يدافع عن نفسه وعن دينه دفاع رجل ثم دفاع عربي حر كريم. وكأني أسمعه يقول: أما وقد أبت قريش إلا الحرب، فلينتظروا أي فتيان هيجاء نحن.
وحقاً رأى وحسناً فعل فإن أولئك القوم الذين صموا آذانهم عن سماع كلمة الحق وغلفوا قلوبهم عن شريعة الصدق، وأبوا إلا الاستمرار في ضلالاتهم، يسلبون وينهبون ويقتلون النفس التي حرم الله، ويستبيحون المحرمات ويهتكون الحرمات، ويفاخرون بإتيان الإثم والمنكر، قد جاءهم نور من الله وكتاب مبين يدعوهم بالرفق والإثارة، فأبوا الاعتوا وطغيانا. فما على محمد إلا أن يجعل الفاصل بينه وبينهم المسند والوشيج والمقوم، وإلى كل سامجة جرداء ومسرودة حصداء، حتى تلين قناتها عزين.
وهكذا امتشق محمد وأصحابه الذين باعوا أنفسهم في سبيله وفي سبيل دعوته، سيوفهم عشر سنوات في حرب وجهاد لم يهدؤوا لحظة ولم يستريحوا غمضة عين وهو يقودهم من نصر إلى نصر كأعظم ما يكون القائد العبقري وكأشجع ما يكون المقاتل فقد كان يقف وسط المعركة لا يهاب ولا يخشى، بل كان أصحاب يلوذون به في كثير من الأحيان، وبذلك استطاع أن ينشر دينه بين أبناء الصحراء وأن يفتح مكة التي خرج منها خائفا يترقب.
الطبيعة تنصر الحق:
تحدث كثيرون عن نشر محمد دينه مجد السيف، واتخذوا هذا دليلا على كذبه وأنه واحد من أولئك الطغاة المتجبرين الذين يريدون المجد والحياة ونشر مبادئهم بالقوة سواءا كانت صالحة أم ضارة، ولكنهم مخطئون كل الخطأ وشد ما يتعسفوا في هذا القول. فهم يقولون:(إنه لولا السيف والحرب لما انتشر دين محمد ولما وجد أنصارا) ولكن فاتهم أن قوة هذا الدين التي أوجد السيف، هذا الدين الذي نشأ في رأس واحد فقط وهو محمد، الذي وقف ضد العالم أجمع، فإذا تناول هذا الإنسان سيفه وقام في وجه الدنيا ليسمع صوته القوي وحجته الدامغة ودعوته الصادقة، نعتناه بالكذب ووصفناه بالطغيان والجبروت وانتقصنا منه ومن دعوته، إنه وربكم أن المنكبون ما أنتصر هذا الدين إلا أنه الحق، فقلما يضيع إنسان يدعو دعوة الحق والصدق، إذ أن الحق ينشر نفسه بأنه طريق مهما كان نوعها.