- لقد رأيت أهل البيت يقددون لحماً فاشتهيت أن أجعل منه غدائي هذا اليوم. كأنه يريد أن يعتذر عن عدم ذهابه إلى البيت ليتناول فيه طعام الغداء على حسب العادة، عند ذلك قوى عندي الشعور بسعادته وقلت:
- حقاً أنه سعيد. . .
أصبح بعد ذلك اليوم لا يخرج ظهراً إلى البيت لتناول طعام الغداء، ولا حاجة إلى الاعتذار عن ذلك إلى رفقائه، وأصبح في أكثر الأحيان يأكل الخبز والجبن لا يزيد عليهما، وربما أتى معه من البيت بسمك محمر، أو لحم مقدد، قد صر ذلك في جريدة، وربما عدل عن اللحم إلى البيض المسلوق. رأيته يوماً يفتح قماشاً فوق منضدته ويقلبه بين يديه ويتأمله مفكراً، فلما وقع نظره على نظري رفع قطعة القماش بيده وقال لي:
- ألا تعجبك هذه القطعة لمعطف نسائي! إنها حقيرة في نظرها لأن ثمنها ثلاثة دنانير!
لقد أقدم على شراء معطف بثلاثة دنانير مع أن مرتبه الشهري أربعة فقط! ومع هذا فهي ساخطة وتعدها حقيرة. . . يا للغرابة!. . لم أر من اللياقة أن أجيبه بما يجب، فأرسلت زفرة من أعماق قلبي وقلت:
- انه سعيد وسعيد. . .!
في اليوم الثاني أخذنا مرتباتنا، وبينما كنا خارجين من الدائرة كان أحد الصيارفة في انتظاره عند الباب فتعلق به وطالبه بنقوده صائحاً معربداً، فدفعه عنه، ولكن الصيرفي أخذ بتلابيبه، ولم يرض أن يتركه حتى يدفع له كل ما عليه، فتخلص منه بعد جهد، وعاد إلينا قائلاً كأنه بكلامه يريد أن يخفف وقع المنظر في نفوسنا:
- يا له من وقح! كأني قد أنكرت ماله علي من دين، فهو يطالبني بهذه الشدة!
فقلت في نفسي: ستدفع إليه بلا شك، وما الذي يقوله هذا النذل فيك إذا أنت لم تأخذ من المرتب إلا ثمن المعطف الذي قدمته للفتاة التي عبثت بلبك بوريقاتها الزاهية، وإلا نفقاتك البيتية والخصوصية، ثم قدمت إليه الباقي جملة واحدة؟! كان يفقد نشاطه بالتدريج، لقد حل مكان النشاط سكون وفتور، أما اعتناؤه بزيه وهندامه فكان يقل شيئاً فشيئاً، ولكنا مع ذلك كنا أحياناً نرى دبوسه الماسي فوق عقدة رقبته، وخاتمه الزمردي في إصبعه، وسلسلة الساعة على صدره. أما الثياب فكان يقضي داخل الحلة الواحدة فصلاً كاملاً، وكان لا يبدل