قميصه إلا نادراً، وظهر عليه انقباض، فربما مرت عليه أيام لا يحرك شفته إلا بكلمة. كنا نشعر نحن أن وراء هذا التبدل ما وراءه من حياة بيتية مضطربة. . . . إلا أنه جاءنا يوماً على غير عادته فرحاً مستبشراً فقال لنا عند دخوله:
- هنئوني، لقد رزقت اليوم فتاة. ثم نظر إلى تقويم الأوقات وكتب في دفتره: ١٥ آذار ١٣٠٠. هنأه كلنا بالمولود الجديد وأنا من جملتهم وقلت:
- ها قد جاء دور الأطفال بعد العيال. جاءني بعد أسبوع وقال والحمرة تعلو وجهه:
- هل عندك دينار تقرضني إياه؟ ثم أردف قائلاً من غير أن يترك مجالاً لرد طلبه:
- يجب علي أن أدفعه إلى القابلة. لقد سمعت الدينار في جيبي يزفر زفرة حرى. ولكن لم يكن في استطاعتي أن أرد طلبه، فأعطيته الدينار. ومن الغريب أنه منذ ذاك الحين أخذ يعاملني معاملة باردة، ويقابلني بوجه جاف، مع أنه لم يكن ثمة حاجة إلى ذلك، لأني منذ ناولته (الدينار) نفضت يدي منه. لقد تغير حال رفيقنا وازداد اضطراباً بعد أن صار أباً. دخل يوماً إلى الدائرة وهو يقول:
- ألا تسألون ما حل بي؟ فأخذنا ننظر إليه بقلق وننتظر أن يذكر لنا ما حل به، ففتح حينذاك ملفاً صغيراً بيده وأخرج منه علبة صغيرة سوداء فرفع غطائها وأرانا إياها فإذا فيها: ثدي صناعي. وقال:
- إن زوجتي لن ترضع أبنتها بعد الآن، سنرضعها بالثدي الصناعي، فهل تدرون لماذا؟ حينذاك توقف عن إتمام كلامه كأنه كان يتردد بين أن يقول وبين أن يسكت ثم قال وهو خجل:
- لأنها حامل!
كان ينظر ألينا باضطراب، وكان منظره مؤلماً ومضحكاً معاً رأيته يوماً عند طعام الظهر أخرج قطعة (كعك) وقطعة من جبن (القشقاوان) وأخذ يأكلهما وهو يتمتم قائلاً:
- أنت تجوع وابنتك في البيت تأكل مرق اللحم الدسم أخذت علائم الحزن ترتسم على محياه وتظهر بأجلى مظاهرها، وبدت على وجهه معاني مؤلمة حزينة لبعد عهده بالموسى، وكان كثيراً ما يكلم نفسه كالمجانين، وكثيراً ما يشتغل بحسابه الخاص - حساب الدين - عن حساب الدائرة، ويسافر بفكره إلى أقصى حدود الخيال.