للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عدنا يوماً من الغداء إلى الدائرة فرأيناه يخيط بطانة معطفه، ذلك المعطف الذي صاحبه زمناً طويلاً، فخجل منا وقال:

- أن زوجتي مريضة لذلك أنا أخيط ثيابي بيدي.

إنه لم يقل الحقيقة لأنه ما كان يخيط بطانة معطفه المفتوقة، بل كان يرفو بطانته التي تهلهل نسجها لطول الأيام. حينما ذكر لنا خبر ولادة المولود الثاني لم يكن فرحاً مستبشراً كما كان في أول مرة بل قال:

- لقد رزقت اليوم غلاماً. ثم نظر إلى تقويم الأوقات وأخرج دفتره من جيبه وكتب فيه: ١٢ نيسان ١٣٠١

لم نره بعد ذلك شكاً أو تبرم، ولكنه كظم كل ذلك في قلبه صابراً مستسلماً لقضاء الله وقدره. سعينا مع الرفاق عند رئيس الشركة ليزيد راتبه فلم نفلح، وكان جواب الشركة:

- أن أولاد الموظفين ليسوا من صنع معاملها حتى تتكفل بهم. أربعة الدنانير للزوجين وللولدين. . . . صار طعامه عند الظهر الخبز والجبن بصورة منتظمة، ولم نعد نراه في منتزه ولا متفرج، وأنزل نوع تبغه الذي يدخنه درجة ثم درجات، وأصبح كثير النظر في أوراق الحساب، وفي آخر أحد الشهور زاره الصيرفي الملح يطالبه بالدين فصاح به:

- لن أعطيك، لن أعطيك شيئاً، افعل ما تشاء.

لقد كان قبل اليوم يكلمه سراً، أما اليوم فهو يكلمه علناً، لأنه لم يعد يخجل منا. جاءنا في صباح أحد الأيام وبيده علبة فيها ثدي صناعي. فقلت له:

- ما هذا؟

فقال:

- لا شيء

كأنه خجل أن يقول ما قاله أولاً، وفي ذاك النهار لم يزاول عملاً، ولكنه جعل رأسه بين يديه واسترسل في أفكاره حتى المساء، لا ينظر إلى شيء ولا إلى أحد. ولاحت مني التفاته إليه أحد الأيام فإذا هو ينظر إلى تقويم الأوقات ثم يخرج دفتره من جيبه؛ فقلت له:

- هل من قيد جديد لزائر جديد؟

فأرسل نفساً قصيراً وكتب في الدفتر: ١٠ مايس ١٣٠٢

<<  <  ج:
ص:  >  >>