فالأستاذ الودياتي قد أقتعد مكانه في الصالة وهو موقن بأنه سيرى الحياة منقولة فوق المسرح نقلا كاملا، فإذا تأثر بما يرى فلا يصح أن يقطع عليه تأثره تصفيق من الجمهور ولا ستار يرفع بعد أن يسدل ليظهر الممثلون بعد ذلك يحيون الجمهور. فإذا رقع هذا جاءت نقلته عليه مزاجه. . . وكان له أن يحتج، وفي الحق أنه غير ملوم في شعوره هذا.
غير أنني أعتقد أنه كان يرى هذا شيئاً عاديا لو أنه اتخذ مكانه في الصالة وهو موقن أنه سيشاهد (تمثيلا) أي مظهر من مظاهر فن التمثيل، وعرف أن فن التمثيل، وشأنه شأن سائر الفنون، لا يقدم (الطبيعة) وإنما يقدم مظاهر (الوجود)، وأن كل فن التمثيل، يتخذ من الحياة ركازا، ولكنه لا يعطى حقيقة الحياة كما هي. . . وأن الفن إذا أحيا الواقع على المسرح، فإنما يكون هذا بطريق الاستثارة لا النقل، ولو أراد الفنان أن ينسخ الواقع نسخاً دقيقاً لأعجزته الوسائل. وإذا افترضنا أن واتته تلك الوسائل فإن نتاجه يكون غير رفيع لأن كل عمل فني إنما يقوم على التركيز والتركيز ليس من الواقع، وكل عمل فني يخضع لقيم ومعايير، إن استلهمت من الطبيعة فإنها ليست الطبيعة منقولة منسوخة بعينها. ومما لا شك فيه أن العمل الفني لو جاء صورة فوتوغرافية من الواقع، لزهد الناس من مطالعته، ولاستغنوا عنه بالواقع المبذول أمامهم.
وواقية المسرح، وهي مناط القول في هذا، خاضعة بسورها لما تقدم ذكره، ويزيد عليها أن إمكانيات المسرح في نقل الواقع قاصرة محدودة، فالمسرح مناظره من القماش أو الورق المصور، وهذا غير الواقع، وهذا غير حقيقة الأشياء كما هي في الحياة.
وممثل دور (هملت) قد يكون مصرياً أو إنجليزياً، ويلعب دوره باللغة التي يتكلمها، هذا في حين أن (هملت) دانمركي المولد والنشأة ولا يتكلم غير اللغة الدنمراكية.
وفوق هذا، فإن المسرحية نفسها لا يتتابع فيها الحوار ولا ينعقد كما يتتابع في الحياة، إذ ليس من الحياة الواقعية أن تنتظم مشاهد الرواية كما أوردها مؤلفها بعد أن أخذ بالتركيز والإجمال، والتقديم والتأخير، والحذف والإثبات، ابتغاء الوصول إلى هدفه في الحدود التي ترسمها شروط فن كتابة المسرحية.
وعليه يمكننا أن نقرر أن كل ما فوق المسرح إنما هو مظاهر لعناصر مستلهمة من الحياة والواقع تشابكت لإحياء صورة من الوجود وتعاونت لاستثارة الواقع وليس لنقله ونسخه،