ولنا أن نقول في مساوئ اللهجات أكثر من ذلك، فإنها في القطر الواحد يسرع إليها الانحلال، فهي عرضة للاضطراب والفساد فها نحن أولاء نجد لكل إقليم عندنا في العراق، بل لكثير من الحواضر أحيانا لهجة خاصة؛ فأهل الموصل في الشمال لهم لهجتهم، وهي لهجة لا يستسيغها أهل بغداد وأواسط العراق لاختلاطها عن المألوفة. وأهل الصرة في الجنوب، يعرفون بلهجة تختلف بعض الاختلاف عن لهجة بغداد. وعلى كل فإن لهجة أهل الريف عندنا تختلف عن لهجة أهل الحواضر اختلافا ظاهرا. ومثل ذلك الاختلاف بين لهجات الريفيين القاطنين في البطائح والبحيرات ولهجات القبائل الراحل في العراق. وفي وسعك أن تعرف بلد المتكلم أو قطره من لهجته. وليس هذا الأمر فيما نرى خاصا بالعراق؛ فمصر وسورية وأقطار الغرب لا نختلف عن العراق من هذه الناحية. والمعروف هنا أن لأهل الصعيد لهجة خاصة، وتشبهها فيما قيل لي لهجة أهل الشرقية والبحيرة. ويبدو لي على ما أكد لي غير واحد من أدباء مصر أن لهجة أهل الصعيد أقرب إلى لهجات أهل البادية في بعض أقطار الشرق العربي كالعراق والشام، فإن الحروف التي أصبحت أثرا بعد عين في منطق أهل القاهرة والإسكندرية وما إلى هذه الجهات مثل القاف والتاء المثلثة، والجيم الفصيحة، لا تزال باقية على حالها في منطق أهل الصعيد، وهي كذلك في لهجة أهل العراق. فنحن بأمس الحاجة والحالة هذه إلى لهجة موحدة، ولا عنى لنا إذا أردنا التفاهم عن تكوين هذه الوحدة. وقد اعترف غير واحد من الأساتذة المصرين الذين زاولوا مهنة التدريس في مدارس العراق بأثر الفصحى في تكوين الوحدة اللغوية المنشودة.
لماذا يعنى أبناء الشرق العربي، بل شعوب الشرق الإسلامي باقتناء المؤلفات المصرية الحديثة، بل باقتناء المطبوعات المصرية مهما كانت؟ ولماذا هذا الإقبال العجيب على مؤلفات أعلام المصرين المعاصرين؟ ولماذا يعجب بترسلهم؟ ولماذا يؤخذ من يؤخذ بسحر بيانهم في أقطار الشرق والغرب المأهولة بمن ينطق الضاد.
قد تعجبون إذا قلت لكم إن مرد ذلك لا معالجة الأبحاث العلمية أو الموضوعات الأدبية في حد ذاتها، وإنما لسبك تلك الموضوعات وأدائها بأساليب لغوية أصيلة البيان مشرقة الديباجة. فهذه الطبقة من الكتاب والمؤلفين المصريين طرست على آثار الطبقة الأولى من المترسلين في الفصحى، وحذت حذو الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد الكاتب والصابئ،