للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فيه عند حدوث أحوال وظروف خاصة، وأنه لا يشفي من جميع الأمراض ولا يضاد جميع الجراثيم، وإنما يشفي من أمراض خاصة، ويضاد أربعة من الجراثيم المضرة، فنقول فيه أنه يلزم حينئذ أن يكون الأمر بغمس الذباب في الشراب مقيدا بتلك الظروف والأحوال، لا مطلقا. ولا يخفى أن الحديث الذي جعله الدكتور من معجزات الرسول يطلق الأمر بالغمس ولم يقيده بشيء، كما أنه يخص بالشفاء أحد الجناحين دون الآخر.

أما أنا فلا أشك في أن الحديث موضوع لا أصل له كما ذكرت ذلك وبينته في كتابي (الشخصية المحمدية) عند الكلام على الرواية عند العرب. ومن العبث أن نفتش عن معجزات رسول الله في مثل هذه الأمور التي يكتشفها الناس ويصلون إلى معرفتها بالطرق العلمية والوسائط الفنية، ولو كانت معجزة لما قدروا على اكتشافها. ولو جاز أن نثبت معجزة من هذا النوع لجاز أن نثبتها للمتنبي شاعر العرب فإنه قبل عشرة قرون قال:

لعل عتبك محمود عواقبه ... فربما صحت الأجسام بالعلل

انتقد المتنبي على هذا وقيل له هذا من قول الطبيب أو الحكيم كما تفي رسالة الحاتمي أو غيره، فأنظر إليها فقد قال هذا في الأيام التي كان التطعيم فيها بجراثيم الأمراض غير معلوم، وفي البكترويولوجيا غير موجود، فأين هذا وأين المعجزات؟

إن الله لم يرسل رسوله إلى الناس لتعليمهم العلم وإنما أرسله إليهم ليصلحهم ويأخذهم بالطاعة وبالأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، ذلك لأن السعادة الإنسانية لا تتحقق إلا في مجتمع، وإن المجتمع لا يتم بناؤه إلا بالتعاون المخلص، والخلق المستقيم الصادق وبالعمل الصالح كما ذهب إليه ابن رشد وغيره من فلاسفة الإسلام، فليس غرض الشارع تلقين العلم، بل غرضه كما قلنا أخذ الناس بالطاعة وبالأعمال الصالحة.

أما المعجزة فهي كل ما خرج عن مقدور البشر عادة، فلا بد للمعجزة من خرق العادة، ولذلك قالوا (لله خرق العادات) وأما هذه الأمور المجهولة فهي داخلة في مقدور الناس عادة. لأنهم يتوصلون إلى اكتشافها ومعرفتها بالتجريب أو بالبحث والتنقيب أو بغير ذلك من الطرق العلمية.

ونحن إذا أردنا أن نعرف معجزة المعجزات فلننظر إلى رسول الله محمد بن عبد الله يتيم مكة وفقيرها كيف قام بالدعوة إلى الإسلام في أيام كان العرب فيها محتربين متعادين

<<  <  ج:
ص:  >  >>