تأثرت بلا ريب بنفوذ هذه الدول وحضارتها؛ وعلى هذا فقد كانت مصر في هذه العصور أمة مغلوبة حقاً، ولكن تحتفظ باستقلالها كوحدة اجتماعية. بل لقد استطاعت مصر أن تحتفظ بهذا الاستقلال الاجتماعي، حتى بعد أن أرغمت على اعتناق النصرانية، ولم تندمج قط في الإمبراطورية الرومانية، كما اندمجت أمم وشعوب أخرى. ولكن الأمة المصرية شهدت منذ الفتح الإسلامي تطوراً جوهرياً في تكوينها الاجتماعي؛ فقد استطاع العرب في أقل من قرن أن ينشئوا منها أمة إسلامية، وأن يجعلوا منها وحدة اجتماعية من وحدات الإمبراطورية الإسلامية الكبرى؛
واندمج الغالب والمغلوب في أمة جديدة موحدة تدين بالإسلام وشرائعه، وتتكلم بلغته، وتضطرم بروحه؛ ولم يأت القرن الثالث من الهجرة حتى أضحى التمييز عسيراً بين السلالة العربية النازحة، وبين السلالة المصرية المسلمة. وكانت مصر حتى منتصف القرن الثالث ولاية من ولايات الخلافة؛ ولكنها استطاعت من ذلك الحين أن تنزع إلى الاستقلال في ظل الدولة الإسلامية الكبرى، على يد بعض الحكام والقادة الخارجين على الخلافة؛ وبدأت من ذلك الحين سلسلة الدول الإسلامية المستقلة في مصر.
وهنا تعرض النقطة الجوهرية. هل كانت مصر سيدة أم مسودة في ظل هذه الدول؟ وهل كانت مصر الفاطمية والأيوبية، ومصر في عهد أسر المماليك المختلفة حتى الفتح العثماني، أمة مستقلة أم كانت ترزح تحت النير الأجنبي؟ وجوابنا مصر كانت في تلك العصور أمة مستقلة تتمتع بكامل حرياتها القومية، وكانت أمة سيدة لا مسودة، تسير في ميدان الحرب والسلام من ظفر إلى ظفر. أما هذه الدول الأجنبية المسلمة التي كانت تتبوأ السلطان والحكم، فلم تكن أكثر من أسر نازحة أو مستقرة تبوأت الرياسة لأصولها الملوكية أو لمؤهلاتها الخاصة؛ ولم تكن تتولى هذه الرياسة لحسابها الخاص، وإنما كانت تتولاها لحساب الأمة المصرية، وتعمل باسمها وبتأييدها، فكانت تغدو بعد استقرارها أسراً مصرية خالصة ليس لها مركز للرياسة غير مصر، وليست لها أمة أخرى تمثلها غير مصر؛ وحتى الدولة الفاطمية التي دخلت مصر غازية، لم تشذ بعد استقرارها عن هذه القاعدة، فكانت مصر هي مركز الدولة الفاطمية ومستقرها، وغدت الخلافة الفاطمية مصرية بعد أن كانت مغربية؛ ومنذ الدولة الأيوبية حتى الفتح العثماني تظهر الأسر السلطانية في مصر ذاتها،