بين القادة والأمراء النابهين؛ ولم تكن تلك العروش والأسر التي قادت الأمة المصرية منذ الدولة الفاطمية إلى الظفر في ميادين الحرب، وإلى مراتب العظمة والهناء في ميادين السلام والحضارة، سوى عروش وأسر مصرية أو متمصرة، تعمل جميعاً لمصر وباسمها، ولم تكن تلك الجيوش الباسلة التي لبثت أكثر من قرنين تتلقى ضربات الحملات الصليبية في مصر والشام، وتبث أعمالها وانتصاراتها الروع في أمم الغرب، سوى جيوش مصرية تقودها تلك الأسر التي ارتضتها لزعامتها؛ على أن تلك الأسر الملوكية ذاتها لم تلبت غير بعيد أن فقدت زعامتها السياسية، وأصبحت خاضعة في التعيين والعزل لرأي الأمة المصرية ممثلة في زعامتها الدينية والفكرية؛ وأنه لمن التعسف أن تخرج من حظيرة الأمة المصرية أسراً نبهت فيها، وتولت زعامتها بحكم تراثها الموروث آماداً، وعملت لمصر ولم تعمل لسواها، ولم يبق لها من صبغتها الأجنبية سوى ذكريات المنشأ والماضي.
كانت مصر الإسلامية إذا، مذ تقلص عنها ظل الخلافة، أمة مستقلة، وكانت مصر الإسلامية أمة مستقلة حين غزاها الترك العثمانيين وحطموا بها صرح حضارة إسلامية زاهرة تكدست على مر العصور؛ ولقد كان الفتح العثماني عملاً همجياً، كما كانت فتوح القبائل البربرية لرومة وأقطار الدولة الرومانية؛ ولم يكن عملاً إنشائياً، كما كان الفتح الإسلامي؛ على أن مصر استطاعت في ظل أولئك الوندال أن تسترد غير بعيد كثيراً من مظاهر استقلالها المحلي؛ ولم يأت القرن الثامن عشر حتى أصبحت السيادة العثمانية على مصر سيادة اسمية، كل ما يهم الحكام الترك منها أن يستدروا بعض الموارد والأموال من الشعب المحكوم.
ولا حاجة بنا للقول بأن مصر استردت كامل استقلالها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وأن كانت قد عادت فانضوت تحت لواء أسرة جديدة.
مما تقدم يبدو تصوير النظرية الغربية لعصور التاريخ المصري بأنها سيادات أجنبية متعاقبة، واستعباد متصل للأمة المصرية، تعسفاً لا يؤيده منطق الحقائق التاريخية؛ ولو طبقناً هذه النظرية الخاطئة على التاريخ القومي لبعض الأمم الأوربية العريقة في الاستقلال والحرية لا نهينا في شأنها إلى مثل ما ينتهي الكتاب الغربيون في شأن مصر. ولنتخذ فرنسا مثلاً، فقد نزحت إليها عقب انهيار الدولة الرومانية قبائل غازية من الشمال،